قبل أسابيع قليلة، اهتزت شاشات العالم بين مشهدين متناقضين في الظاهر: رجل يتحدث أمام الكنيست الإسرائيلي بلغة التهديد والتفوق العسكري، ثم يظهر بعد أيام على منصة قمة دولية يتحدث عن «السلام» و«التعايش». الكلمات من فمٍ واحد، لكن الروح من عالمين مختلفين.
إن القوة باتت تملك حق كتابة الرواية كما كانت في عصور الظلام وتحديد مَن هو الضحية ومَن هو الجاني وفق مصالحها وعقائدها وموروثاتها. العالم، كما يبدو اليوم، لا يُدار بالقيم أو القانون، بل بمَن يملك الميكروفون الأكبر والجيوش الأقوى. إنه مشهد يلخّص مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، حيث يمكن لمَن يحمل السلاح أن يعتلي منصة السلام، ولمَن يهدم المدن أن يتحدث عن «التعايش».
حين تتحول العدالة إلى مشهد علاقات عامة
السلام في خطابات القوى، لم يعد يعني إنهاء الاحتلال أو رفع الظلم، بل مجرد وقفٍ مؤقت لإطلاق النار يتيح استمرار السيطرة بأدوات ناعمة. حين تُقدَّم سياسات القهر الصهيونية كحقٍّ في «الدفاع عن النفس»، وحين يُطلب من الضحية أن تشكر مَن يدمرها ويفرض عليها الحصار، فإننا لا نعيش حرباً عسكرية فقط، بل حرباً لغوية على الوعي.
لقد أصبحنا في عالمٍ يُعاد فيه تعريف المفاهيم كل يوم: «الأمن» صار مرادفاً للهيمنة، و«الشرعية» تُقاس بميزان القوة لا بالقانون.
الإعلام ساحة الحرب الجديدة
لم تعد المعركة تُخاض في الخنادق فقط، بل في نشرات الأخبار وموجات الإنترنت التي عملت على إعادة صياغة الرواية الفلسطينية في السنوات الأخيرة بالسردية الصهيونية، بحيث تُختزل إلى «نزاع داخلي»، وتُمحى جذورها كقضية احتلال واستعمار.
لكن شيئاً تغيّر في السنوات الأخيرة: انكسرت احتكارية الرواية الرسمية.
باتت صورة طفل تحت الركام، تُلتقط بهاتفٍ محمول وتُنشر على منصة صغيرة، قادرة على زعزعة منظومات إعلامية عملاقة. وهنا تبرز مسؤولية الأفراد: أن يتحول كل هاتفٍ إلى منبر، وكل منشورٍ إلى موقف. ففي زمن الصورة، مَن يملك روايته يملك الحقيقة.
الوعي الفردي: مسؤولية لا تنتظر الأوامر
في زمن الشاشات المفتوحة والتواصل الاجتماعي والقرارات الفردية، كل إنسانٍ اليوم هو فاعل سياسي وأخلاقي.
قرار الشراء، والمنشور على مواقع التواصل، والصورة التي تختار مشاركتها ــ كلها مواقف.
التاريخ لا يصنعه القادة وحدهم، بل تصنعه الشعوب التي تقرر أن ترفض الانقياد للسردية الصهيونية المتوحشة.
والمجتمع الذي يعتاد التبرير للعجز، يورّث أبناءه العجز ذاته. لذلك، فإن كل فردٍ مسؤول عن نصيبه من الوعي والموقف والكرامة. أسرتك وأبناؤك أوصل لهم الرواية العربية والإسلامية للقدس وفلسطين... اكشف لهم الصهيونية وكيف تعبث بأميركا بل والعالم.
حين يصبح الصمت تواطؤاً
السكوت عن العدوان، ولو بحجة التعب أو الخوف أو «الحياد»، هو شكل من أشكال المشاركة في الجريمة. العالم لا يعاني قلةَ الضحايا، بل قلةَ الشهود الصادقين. وإن الأمة التي تصمت أمام محو مدنها لا تُهزَم بالقنابل بل باللامبالاة.
المقاطعة الاقتصادية: من شعار إلى ثقافة
حين يشعر الإنسان بالعجز يبحث عن وسيلة سلمية للمقاومة، فالمقاطعة الاقتصادية هي إحدى تلك الوسائل، لكنها ليست مجرد امتناع عن شراء منتج، بل اختيار أخلاقي واعٍ. إنها تعبير عن رفضنا لأن نكون جزءاً من اقتصادٍ يموّل الظلم. تجارب التاريخ واضحة: من كندا حالياً إلى جنوب إفريقيا إلى حركات التضامن مع فلسطين، المقاطعة أثبتت أن السوق يخضع حين يواجه غضب الضمير الإنساني. فالشركات لا تُراجع مواقفها حباً في العدالة، بل حين تخسر. وفي هذا السياق، تتحول المقاطعة إلى أداة حضارية تقول للعالم: إننا لا نملك الطائرات، لكننا نملك الاختيار.
قاطعوا أفكار الغطرسة وثقافة التخاذل
المقاطعة الحقيقية تبدأ من الرأس لا من الجيب. قاطعوا أفكار الغطرسة، قاطعوا ثقافة الهوان والتخاذل، قاطعوا الخطاب الذي يروّج لـ «الشرق الأوسط الكبير» المبني على تفوق عرقي وثقافي. قاطعوا كل فكرة تقول إننا أمة ضعيفة، وإن صوتنا لا يُسمع، وإن مصيرنا يُكتب في عواصم أخرى. نحن أمة قوية، متماسكة إلى يوم الدين. قوتنا ليست في حكوماتنا أو جيوشنا فقط، بل في الضمير الجمعي حين يستيقظ، وفي الوعي حين يتحول إلى فعل.
من الوعي إلى الفعل
الوعي بلا فعلٍ يتحول إلى ترفٍ فكري. والمقاطعة ــ إذا اقتصرت على بضائع محددة ــ تتحول إلى ردّ فعلٍ عاطفي قصير المدى. لكن حين تتحول إلى نهجٍ تربوي وثقافي واقتصادي متكامل، تصبح قوة تغيير حقيقية.
فلتكن المقاطعة ثقافةً تشمل كل مجالات الحياة:
• في الاستهلاك، نشتري ممن يحترم الإنسان لا ممن يسحقه.
• في الإعلام، نتابع مَن يقول الحقيقة لا مَن يجمّل الاحتلال.
• في التعليم، نزرع في أبنائنا الثقة لا عقدة النقص.
•وفي الدين، نُذكّر أن المقاومة ليست بالضرورة سلاحاً، بل يمكن أن تكون كلمةً حرة، أو وعياً صادقاً، أو قراراً أخلاقياً جريئاً.
سلامٌ لا يُشترى
السلام الذي يُفرض على المقهورين ليس سلاماً، بل هدوء ما قبل الانفجار.
العدالة لا تُمنح من موقع القوة، بل تُنتزع من وعي الشعوب وإصرارها على ألا تُخدع.
العالم لا يحتاج إلى المزيد من مؤتمرات السلام، بل إلى تعريفٍ صادقٍ للسلام ذاته.
سلامٌ يُبنى على الكرامة لا الخضوع، وعلى المساواة لا الوصاية، وعلى الاعتراف لا الإملاء.
نداء إلى الضمير الإنساني
إن هذا المقال ليس نداءً سياسياً، بل صرخة أخلاقية.
نحن نعيش زمناً تُكتب فيه الحقائق على هوى الأقوياء، لكن التاريخ أثبت أن الروايات لا تعيش طويلاً إن لم تسندها العدالة. القوة قد تفرض صمتاً مؤقتاً، لكنها لا تستطيع إسكات الضمير الإنساني إلى الأبد. فلنقاطع ليس فقط ما يُباع على الرفوف، بل ما يُباع للعقول من أفكارٍ زائفة وأوهامٍ مُخدّرة وزخرف القول تطلقها منصات الإعلام ليل نهار. فلنقاطع ثقافة «الانتظار»، ثقافة «ما باليد حيلة»، ثقافة «الأمر الواقع». ولنستبدلها بثقافة الفعل الفردي، والمبادرة الواعية، والكرامة المتجددة. فالأمة التي تقاطع الظلم فكراً وسلوكاً، لا يمكن أن تُهزم مهما تكالبت عليها القوى. والإنسان الذي يرفض أن يكون على رصيف المتفرجين، هو في الحقيقة أول مَن يغيّر وجه التاريخ.
الخاتمة: بداية جديدة من الوعي
ليست هذه دعوة إلى الغضب، بل إلى النضج. لسنا مطالبين بالحروب، بل بالمواقف.
نداء إلى عقولٍ تُقرر أن تفكر بحرية، ومن قلوبٍ تعرف أن الحق لا يُستأذن.
العالم يتغير حين يتغير الناس. والمقاطعة ــ حين تفهم بمعناها الأوسع ــ هي أول الطريق: طريقٌ من الوعي إلى الكرامة، ومن الكرامة إلى السلام العادل الذي لا يُفرض، بل يُصنع.
* وزير الصحة الأسبق