في محاولة جديدة لتوثيق قصة إصدار الدينار الكويتي نشر مركز البحوث والدراسات بحثاً للدكتور خالد فهد الجارالله، جرى فيه استعراض ذلك التحول الاقتصادي المهم لكونه رمزاً للسيادة الوطنية.

يكتب د. خالد الجارالله في «رسالة الكويت»، الصادر حديثا في أكتوبر 2025: «لقد تجلت بصيرة الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح منذ مطلع الخمسينيات مع بداية حكمه في وضع أسس اقتصاد وطني مستقل، فقد أدرك أن الاعتماد على الروبية الهندية، التي كانت تُدار تحت النفوذ البريطاني وتعاني التهريب والتقلب، لن يخدم طموحات الكويت الناشئة، خاصة مع تدفق إيرادات النفط وتنامي الموارد المالية. فوجه فريقه الحكومي لإجراء دراسات استشارية معمقة، استعين فيها بخبراء لتقييم الاحتياطيات المالية ووضع خطط لإصدار عملة وطنية، كما أمر بتأسيس مصارف وطنية بدأت ببنك الكويت الوطني (تأسس عام 1952م)، ثم البنك التجاري الكويتي (تأسس عام 1960م). سبق ذلك تأسيس بنك أجنبي في الكويت، هو البنك البريطاني للشرق الأوسط عام 1942، شكلت هذه المصارف حواضن للعوائد النفطية ودعامة للاقتصاد الوطني، وكانت أذرعا جاهزة لإدارة عمليات استبدال العملات النقدية وتنفيذها».

Ad

صورة ضوئية عن اقتراح مجلس النقد باستعمال الدينار الكويتي في دول الخليج

في الخطوة التالية تأسس مجلس النقد الكويتي بموجب المرسوم الأميري رقم 41 لسنة 1960م، برئاسة الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، مؤسسة عامة مستقلة. وركز سمو الشيخ عبدالله السالم على تكوين المجلس من كفاءات وخبرات تتماشى مع أهداف الإنشاء، لضمان تنفيذ تحول العملة بسلاسة والتعامل مع الروبية الخليجية المسحوبة عبر التنسيق مع بنك الاحتياطي الهندي، وتهيئة الدينار للقبول دوليا بربطه بالذهب لتكون أول دولة خليجية تخطو هذه الخطوة، وهذه الرؤية المبكرة مهدت للنجاح اللاحق.

مجلس النقد الكويتي

ضم مجلس النقد الكويتي، الذي تأسس عام 1960م، مجموعة من الشخصيات ذات الخبرات المتنوعة، تتماشى مع رؤية الأمير الشيخ عبدالله السالم لتنفيذ الجوانب المالية التقنية للمهمة:

- الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح رئيس المجلس ورئيس دائرة المالية والاقتصاد وشؤون النفط وأملاك الحكومة آنذاك، وهو قائد ذو رؤية سياسية واقتصادية، أشرف لاحقا على استراتيجيات التنمية المالية وهو أمير للكويت (1977-2006م).

- خليفة خالد الغنيم، ممثل البنوك والمصارف الوطنية، وخبير مالي محلي.

- يعقوب يوسف الحمد، ممثل غرفة التجارة، مفكر وخبير في الشأن العام وإدارة الموارد.

- فخري شهاب، ممثل دائرة المالية والاقتصاد، خبير وأكاديمي اقتصادي.

- حيدر شهابي ممثل دائرة المالية والاقتصاد، وخبير مالي.

- سي إلى لوم Mr.C.E.Loombe ممثل منطقة النقد الإسترليني. بريطاني غير مقيم.

- آبفار روث Mr. Ivar Rooth خبير محايد بمسائل النقد. استقال عام 1962م وخلفه سفين يوجه Mr.Sven Joge نائب محافظ بنك السويد المركزي.

كما عين المجلس كلاً من:

- ر. هـ. تيرنر Mr. R.H. Turner خبيراً فنياً بريطانياً معاراً من بنك إنجلترا للمجلس.

- حمزة عباس حسین، سكرتيراً وضابطاً للنقد.

انضمت الكويت في سبتمبر 1962م إلى عضوية صندوق البنك الدولي وبنك الإنشاء والتعمير الدولي وما يتبعهما من مؤسسات، ومثلها رئيس مجلس النقد محافظاً، وتم حل مجلس النقد بعد تأسيس بنك الكويت المركزي مطلع عام 1969م وتشغيله.

واجهت الروبية الهندية قبل عام 1961م تحديات، مثل تهريب العملات وتقلب قيمتها، مما هدد الاستقرار الاقتصادي. ومع اقتراب مرحلة الاستقلال رأت الحكومة الكويتية فرصة لتأكيد سيادتها عبر إصدار عملة وطنية تعكس قوتها الاقتصادية الناشئة المدعومة بإيرادات النفط. تمحورت حول رؤية الأمير الشيخ عبدالله السالم الرامية إلى بناء اقتصاد وطني مستقل وقوي.

خطوات التحول

وقد نجحت الحكومة في تنفيذ التحول، بفضل:

1 - التخطيط الفني الدقيق: شمل اختيار فريق العمل (مجلس النقد الكويتي) المشرف على تحويل العملة، وتصميمها، وتقييمها، ووضع إجراءات التحويل، إلى جانب ضوابط تشريعية، وتنظيمية وتنفيذية، ورقابية، مع رصد الانعكاسات المحلية والخارجية، واقتراح القوانين واللوائح المنظمة، مما ضمن تنفيذ العملية بكفاءة عالية.

2 - التشريعات القانونية: صدر المرسوم الأميري بقانون مجلس النقد الكويتي رقم 1960/41م، وحدد اختصاص مجلس النقد بإصدار الأوراق النقدية، وطباعتها، وسك العملات المعدنية، وجمع العملات المسحوبة واستبدال الدينار بها، ومعادلة الدينار، حيث تم تحديد الروبية الواحدة بـ75 فلسا، وربط قيمته بالذهب الخالص، معادلة الدينار بـ2.48828 غرام من الذهب، أي ما يساوي جنيها إسترلينيا في ذلك الوقت.

كما وضعت ضوابط رقابية للحفاظ على مخزون الذهب والعملات، وتأسيس صندوق نقد احتياطي من السبائك الذهبية، وسلة للعملات والكمبيالات التجارية، وأذونات الخزينة الأجنبية، واستثمار أموال الصندوق لصالح المالية العامة، كان القانون رقم 1960/41م، التعبير التشريعي الأول للاستقلال النقدي لدولة الكويت، يعكس آنذاك طبيعة الاقتصاد الكويتي في جوانبه النقدية والمصرفية، وتبعه فيما بعد صدور قانون رقم 1968/32م ليستكمل متطلبات العصر لتأمين نهضته الاقتصادية وتعزيز تقدمه وإرساء ركائزه النقدية والمصرفية، حيث نظمت أحكام القانون في أبواب أربعة، الأول عن النقد، والثاني عن بنك الكويت المركزي والذي حل محل مجلس النقد بعد تأسيسه وممارسة أعماله في أبريل 1969م، والثالث عن تنظيم المهنة المصرفية، والرابع عن الأحكام العامة والانتقالية.

3 - التعاون الدولي: تم التعاقد لإنجاز المهمة مع شركة براد بيري ويلكينون ودار السك الملكية في بريطانيا. مع اختيار تصاميم تعكس الهوية الكويتية قدمت الشركة، المعروفة بخبرتها منذ القرن التاسع عشر، أوراقا نقدية عالية الجودة والأمان، بينما صنعت دار السك الملكية العريقة منذ عام 1886م العملات المعدنية بدقة عالية.

4 - التنسيق والتنفيذ اللوجستي: نقلت العملة بحريا تحت إجراءات أمنية مشددة، مع تنسيق دقيق لضمان وصولها إلى الكويت وتوزيعها عبر البنوك التجارية (البنك البريطاني للشرق الأوسط، وبنك الكويت الوطني، والبنك التجاري الكويتي)، ودائرة البريد.

5 - إدارة الاستبدال: سبق التحول إلى الدينار تجربة استبدال الروبية الهندية بالروبية الخليجية عام 1959م، التي نفذت خلال ستة أسابيع بمشاركة البنك الوطني الكويتي، والبنك البريطاني للشرق الأوسط، كما أرسل مجلس النقد الكويتي وفدا إلى الحكومة الهندية (مارس 1961م) للاتفاق على آلية استرجاع الروبية الخليجية وتحديد معادلة التحويل والمقابل لها للحكومة الكويتية.

وبدأ تداول الدينار في 1 أبريل 1961م، واستمر الاستبدال حتى 17 مايو 1961م بعد تمديد الموعد الأصلي (۳۱ مارس) بناء على طلبات الجمهور. وراقب المجلس العملية لتجنب التضخم أو ارتفاع الأسعار، ووجهت الحكومة البنوك ومكاتب البريد للعمل بنظام النوبتين، وإلغاء إجازات الموظفين خلال تلك الفترة. جمعت 342 مليون روبية خليجية (تعادل تقريباً 25.65.000 دينار) ونقلت إلى بنك الاحتياطي الهندي.

تداعيات تحويل العملة

حقق تحويل العملة تأثيرا شاملا عبر ثلاثة أبعاد رئيسية:

- اقتصاديا: عزز الدينار الثقة بالاقتصاد المحلي وأصبح رمزا للاستقلال، مما شجع الاستثمار، ودعم استقرار الأسعار، وحفز دول الخليج الأخرى لإصدار عملاتها الوطنية، ورفع مكانة الكويت دوليا.

(سبق إصدار العملات الوطنية لدول الخليج التفكير في مقترح اتخاذ الدينار الكويتي عملة لها في المسائل النقدية).

- سياسيا: شكل التحول خطوة حاسمة في تعزيز السيادة الوطنية بعد الاستقلال، إذ أنهى الاعتماد على الروبية الخليجية المرتبطة بالنفوذ البريطاني، مما عزز مكانة الكويت دولة مستقلة على الساحة الدولية وأكد استقلاليتها الاقتصادية والسياسية.

- اجتماعيا: أدى الدينار دورا في تعزيز الوحدة الوطنية، حيث أصبح رمزا للهوية الثقافية الكويتية من خلال تصاميمه التي عكست التراث (مثل سفينة الداو - البوم) ومظاهر التقدم (مثل الرعاية التعليمية والسكنية)، مما عزز الفخر الوطني والانتماء.