يشهد المواطن اليوم واقعاً اقتصادياً متغيراً تتسارع فيه الرسوم والتكاليف على مختلف جوانب الحياة اليومية، من الخدمات الحكومية والتعليمية، إلى الفواتير الصحية والإدارية. هذه الزيادات المتلاحقة باتت تمسّ حياة الناس بشكل مباشر، وتؤثر في ميزانياتهم الشهرية، خصوصاً للطبقات المتوسطة ومحدودة الدخل التي أصبحت تعيش بين مطرقة الأسعار وسندان الراتب الثابت.
في الوقت ذاته، لم تشهد الرواتب زيادات حقيقية تواكب هذا الارتفاع العام في الأسعار. ومع غياب آليات واضحة تربط الأجور بمعدلات التضخم، تآكلت القدرة الشرائية للمواطن، وأصبح تأمين متطلبات الحياة اليومية تحدياً متزايداً.
النتيجة الطبيعية هي ضغوط نفسية ومعيشية تتراكم يوماً بعد يوم، وتنعكس على استقرار الأسر وجودة الحياة.
إن المعالجة الحقيقية لأي عجز مالي أو خلل في الميزانيات العامة لا تكون بتحميل المواطن العبء، بل عبر مراجعة أوجه الإنفاق العام والهدر المالي، وتعزيز الكفاءة في إدارة الموارد، ومكافحة الفساد الإداري. فالمواطن لا يمكن أن يكون دائماً الحل الأسهل أو الطرف الذي يُطلب منه دفع الثمن.
تقتضي العدالة الاقتصادية أن يكون هناك توازن بين فرض الرسوم وتطوير الخدمات، وبين مسؤولية الدولة في ضبط النفقات وحق المواطن في حياة كريمة.
إن زيادة الرسوم قد تكون أداة مالية مشروعة في بعض الحالات، لكنها تتحول إلى عبء اجتماعي حين لا ترافقها رؤية متكاملة تراعي الفئات المتأثرة بها.
وفي خضم هذا الارتفاع العام في التكاليف، ارتفعت كذلك رسوم التقاضي، فأصبح اللجوء إلى القضاء عبئاً مالياً إضافياً لا يقدر عليه كثير من المواطنين.
تحوّل التقاضي إلى امتياز للأغنياء، بعد أن كان حقًا دستوريًا مكفولًا للجميع دون تمييز.
وهذا يمثل إخلالًا صريحًا بمبدأ العدالة والمساواة أمام القانون، إذ لا يمكن أن يصبح الوصول إلى العدالة مشروطًا بالقدرة على الدفع.
فحق التقاضي، كما نص عليه الدستور، حق أصيل لا يجوز المساس به تحت أي مبرر مالي أو إداري.
من الضروري أن تتبنى الحكومة سياسة واضحة تقوم على الشفافية والتدرج والتوازن، بحيث يُربط أي تعديل في الرسوم بتحسين ملموس في الخدمات، وبآلية دورية لمراجعة الأجور بما يضمن استمرار العدالة المعيشية.
الإصلاح الحقيقي يبدأ من إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن.
ليس مقبولًا أن يكون الإصلاح دائمًا على حساب الناس، وليس منطقيًا أن تتحول الدولة إلى جابي رسوم بدل أن تكون راعية للعدالة والكرامة.
نحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يربط بين المسؤولية والشفافية، بين الحقوق والواجبات، بين المواطن والحكومة على أساس الشراكة لا التبعية.
فالكرامة الاقتصادية ليست ترفًا، بل حقّ أساسي من حقوق الإنسان.
وما لم تُربط السياسات المالية بهذا المبدأ، فستبقى الرسوم ترتفع... بينما الرواتب والمستقبل ينخفضان.