لم يكتفِ اليمنيون بحربهم المستمرة منذ عام 2014م حتى الآن والتي أكلت الأخضـر واليابس، بل أزاغ لهم شيطان أنفسهم أن يُدمروا المؤسسات الاقتصادية العاملة في البلد، وإخضاعها للتَّسيس والتَّنازع والتَّصارع الذي يقومون به، بالرغم من كونها أحد أهم مقومات كيان الدَّولة اليمنية برمتها، وكأنهم بهذا الأمر يُعيدون للتَّاريخ قصةً حدثت في الزَّمن القديم، فعندما عصـى قوم سبأ الله، أرسل عليهم سيلُ العَرِمْ كعذاب، فانهار سدُّ مأرب، رمز النَّهضة والازدهار في تلك المملكة، بل صاروا مثلاً يُضـرب به للتشبيه لحال التَّفرق بعد الوحدة، والتَّشتت بعد الجمع، والاندثار بعد الازدهار، ليصبح حالهم هذه الأيام موزعاً بين الولاءات الطَّائفية والحزبية المقيتة، وبين المطامع والمصالح الشَّخصية الأنانية، بعد أن كانت الكلمة واحدة، وكان الهم مشتركا، والوطن للجميع، ولا نعرف حقيقةً هل التَّاريخ يُعيد نفسه أم غابت الحكمة بالذَّات في بلد الإيمان والحكمة؟!
تفرَّقت أيادي سبأ من جديد، فكان الاقتصاد أول ضحايا هذا الصِّـراع اليمني، ليعيش اليمن تكراراً مأساوياً لقصة مملكة سبأ القديمة، ولكن هذه المرّة ليس بانهيار سدٍّ بل بضياع اقتصادٍ وطنيٍّ كان يجمع اليمنيين تحت مظلة واحدة، ومثلما تفرَّقت القبائل السَّبئية بعد سيل العَرِمْ، تفرَّقت أيادي اليمنيين اليوم بين حكومتين، وبنكين مركزيين، وعُملتين، ومشاريع متناحرة لا يجمعها سوى الجغرافيا والألم، بدأت شـرارتها عندما استولى الحوثيون على العاصمة صنعاء عام 2014م، فدخل البلد بمرحلة انقسامٍ شاملٍ في السِّياسة والإدارة والقرار، وحتى حين قررَّت الحكومة المُعترف بها دُولياً نقل البنك المركزي إلى عدن عام 2016م، لم يكن القرار اقتصادياً بقدر ما كان إجراءً سيادياً في حربٍ مفتوحةٍ خلقت «الانقسام المؤسسـي»، وفرَّغت السِّياسة النقدية من وِحدتها، فصارت أدوات النقد والاحتياطيات محلّ تنافسٍ وتجاذبات منذ تلك اللَّحظة، وبالتَّالي لم يعد الاقتصاد واحداً، بل صار مُزدوجاً، فبنكٌ مركزي في صنعاء يُدير مناطق الحوثيين بسياساتٍ مالية محصورةٍ ومُهددة، وبنكٌ آخر في عدن يحاول إدارة ما تبقّى من شتات الدَّولة وسط عجزٍ وفسادٍ وضغوطاتٍ سياسيةٍ واقتصادية، ليؤدي إلى هروب الودائع، وتقلّص نشاط البنوك التَّقليدية، ولتزدهر محلات الصـرافة التي امتلكت سيولةً أعلى، الأمر الذي عزَّز عدم الاستقرار المالي وأضعف قُدرة الدَّولة على رسم سياساتٍ نقديةٍ فعّالة.
وما حدث لاحقاً كان أشدُّ قسوةً، فطباعة عملة جديدة في عدن، قابلها قبولٌ مبدئيٌّ حوثي للتَّعامل بها خلال عامي (2017 – 2018م)، ثم رفضها ومُصادرتها من لدى مواطني مناطقهم، فظهرت عُملتان يمنيتان تحملان الشِّعارات نفسها، والشَّكل نفسه، والقيمة القانونية ذاتها، لكن تختلفان في السِّعر والمعاملة، وليشهد الرِّيال انهياراً كبيراً في قيمته الشِّرائية بمناطق الحكومة الشَّرعية، بينما استقر نسبياً بصنعاء بفعل القيود الصَّارمة، والملاحقات القانونية، وهكذا تحوَّل المواطن إلى ضحيةً مباشـرة لصـراعٍ لا تُفهم قواعده، ولا تتضح مُحدداته، ليدفع ثمن خلافٍ سياسـيٍّ لا ناقة له فيه ولا جمل!!
ولم يتوَّقف هذا الصِّـراع عند العُملة فحسب، بل امتدّ إلى مصادر الدَّخل الحقيقي للبلد، فأوقفت جماعة الحوثي تصدير النِّفط والغاز عبر هجماتها على موانئ تصديره في عامي 2022 و2023م، وخسـرت الدَّولة أكثر من نصف مواردها، وصل حجمه إلى (7.5) مليارات دولار، كما تراجع النَّاتج المحلي الإجمالي بأكثر من (60%)، وتضاعفت معدلات الفقر والبطالة، وانخفض نصيب الفرد بنسبة (-58%).
وختاماً... يجب على أولئك المتصارعين على السُّلطة والنُّفوذ والمغانم التَّوقف عن كل أطماعهم، وأن يقوموا بتسليم البلد لإدارةٍ وطنية ترى أن الاقتصاد ليس سلاحاً مُوجهاً ضد أحد، بل أساساً لهم جميعاً للبقاء والدَّيمومة.
صـحافـي يمني