على مدى أكثر من خمسة عقود، تبنّت الحكومات والشركات والأفراد حول العالم التكنولوجيا باعتبارها المحرّك الأهم للنمو. وكان الافتراض بسيطاً: كلما زاد الاعتماد على التكنولوجيا، زادت الرفاهية. من الذكاء الاصطناعي والأتمتة، إلى الحوسبة السحابية وأنظمة الدفع الرقمي، أصبح الاقتصاد العالمي اليوم يعمل بلغة واحدة: «الكود». لكن، كما في أي دفتر حسابات، هناك دائماً جانبان للمعادلة.
في جانبها الإيجابي، يقف ما يُعرف بـ «العائد الرقمي»، وهو ناتج اقتصادي سنوي يُقدَّر بين 2 و3 تريليونات دولار بفضل تبنّي التقنيات الحديثة. وفي الجانب الآخر، تنمو بسرعة «الضريبة السيبرانية»، وهي الخسائر الناتجة عن الجرائم الإلكترونية وسرقة البيانات وهجمات الفدية والتخريب الرقمي، والتي يُتوقَّع أن تصل إلى 10.5 تريليونات دولار سنوياً بحلول عام 2025، أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي لليابان وألمانيا مجتمعَين، تتآكل بهدوء من اقتصادات العالم عبر خسائر غير مرئية.
تصاعد الهشاشة الرقمية
أدّى اعتماد الاقتصاد العالمي على البنية التحتية الرقمية إلى خلق مفارقة: فكل تقدّم تكنولوجي يجلب معه شكلاً جديداً من التعرض للخطر. من أنظمة الصحة والمياه إلى السيارات والمؤسسات المالية، جعل الاتصال الرقمي كل شيء أكثر كفاءة، لكنها أيضاً أكثر قابلية للاختراق.
الأرقام تتحدث
مجموعة UnitedHealth/ Change Healthcare (الولايات المتحدة، 2024): هجوم فدية على أكبر معالج لمدفوعات الرعاية الصحية أدى إلى خسائر مباشرة بلغت 1.52 مليار دولار، وإجمالي أضرار تخطى 2.46 مليار دولار.
منتجعات MGM (الولايات المتحدة، 2023): هجوم سيبراني أجبر الشركة على إغلاق عملياتها لأكثر من أسبوع، ما محا 100 مليون دولار من أرباحها في ربع واحد.
شركة AT&T (الولايات المتحدة، 2024 – 2025): اختراقان ضخمان لبيانات العملاء أدّيا إلى تسوية جماعية بقيمة 177 مليون دولار، وتآكل ثقة المستخدمين في العصر الرقمي.
جاكوار لاند روفر (المملكة المتحدة، 2025): هجوم فدية أجبر الشركة على وقف الإنتاج، بخسائر تقدَّر بـ 50 مليون جنيه إسترليني أسبوعياً، ودفع الحكومة البريطانية إلى تقديم ضمان قروض بقيمة 1.5 مليار جنيه لدعم مورّديها.
هجوم Synnovis (لندن، 2024): حادث سيبراني عطّل خدمات المختبرات الطبية في عدد من مستشفيات هيئة الصحة الوطنية، وأدّى إلى إلغاء آلاف الإجراءات الطبية.
أنظمة المياه الأميركية (2023–2024): تقرير لمكتب المحاسبة الحكومي حذّر من أن القراصنة استهدفوا أكثر من 170 ألف نظام مياه وصرف صحي عام، ما كشف عن هشاشة تتجاوز مجرد سرقة البيانات.
مليارات تُنفق... ولا حماية كافية
رغم الاستثمارات الضخمة في الأمن السيبراني، تستمر الاختراقات بوتيرة متصاعدة.
• شركة Tata Consultancy (الهند): أنفقت نحو 6.5 إلى 7 مليارات دولار على البنية الرقمية والأمنية، ومع ذلك تعرّضت شركتها التابعة في بريطانيا «جاكوار لاند روفر» لهجوم شلّ الإنتاج.
• MGM وAT&T رفعتا إنفاقهما على الأمن الإلكتروني بعد الاختراقات، لكن دون إعلان الأرقام.
• أنظمة المياه الأميركية رغم الدعم الفدرالي، ما زالت تفتقر إلى استراتيجية موحدة للأمن السيبراني، مما يجعل البنية التحتية الحرجة مكشوفة.
النمط واضح: العالم ينفق أكثر من أي وقت مضى على الحماية، لكنه يخسر بوتيرة أسرع. فالمشكلة ليست تقنية فحسب، بل هيكلية، فكل طبقة جديدة من «الراحة الرقمية» توسّع سطح الهجوم، وكل تكامل بين الأنظمة يضيف خطراً جديداً، وكل نظام ذكاء اصطناعي يولد هدفاً جديداً للقراصنة.
الكلفة الحقيقية للمبالغة في الرقمنة
رغم التفاؤل المحيط بالذكاء الاصطناعي والمدن الذكية والتوسع السحابي، فإن المخاطر السيبرانية أصبحت نزيفاً اقتصادياً يغيّر موازين النمو.
• الخسائر من الجريمة الإلكترونية يُتوقع أن تصل إلى 10.5 تريليونات دولار سنوياً في 2025.
• استثمارات التحول الرقمي ستبلغ 3.4 تريليونات دولار في 2026.
أي أن كل دولار يُكسب من التحول الرقمي، قد يُقابله خسارة ثلاثة دولارات من الاضطرابات والاحتيال والتعافي من الهجمات. حتى الحكومات لم تسلم من الخسائر: من دعم بريطانيا لمورّدي «جاكوار» بمليار ونصف المليار، إلى مليارات دفعتها شركات التأمين الأميركية لتغطية هجمات على أنظمة الصحة.
عندما تصبح التكنولوجيا خطراً وطنياً
لم تعد المخاطر التكنولوجية قضية تخص القطاع الخاص فقط، بل أصبحت قضية أمن قومي
• هجوم على بنية الرعاية الصحية قد يؤخّر العمليات الجراحية ويعرّض الأرواح للخطر.
• اختراق أنظمة المياه قد يهدد السلامة العامة.
• هجوم فدية صناعي قد يوقف الصادرات ويؤدي إلى فقدان وظائف.
في عام 2024 وحده، تسببت الهجمات السيبرانية بتعطيل عشرات المستشفيات في أميركا، ومصانع في أوروبا، وشركات لوجستية في آسيا. الخسارة لم تعد مالية فقط بل «ثقة بالنظام».
أسطورة «التقدم الآمن»
يحتفل العالم بكل مركز بيانات جديد أو مختبر ذكاء اصطناعي بوصفه نصراً للابتكار دون أن يحسب المخاطر المتضاعفة التي يولدها كل واحد منها. كل تيرابايت من البيانات المخزّنة هو تيرابايت معرض للاختراق. وكل نظام ذاتي التشغيل يمكن الاستيلاء عليه. الوهم أن التقدم والأمان يسيران في خطين متوازيين. أما الحقيقة فهي أن التقدم من دون حماية هو تراجع مقنّع.
الطريق إلى الأمام: موازنة النمو بالأمن
لخفض «الضريبة السيبرانية»، على الحكومات والشركات يجب أن:
1. تقيس القيمة الرقمية الصافية، أي تحتسب الخسائر المحتملة ضمن خططها الاقتصادية.
2. تصمم لتنهار سريعاً، أي تضع مبدأ المرونة والعزل في بنية الأنظمة منذ البداية.
3. تحمي سلاسل التوريد الرقمية، فضعف مزوّد واحد قد يشلّ المنظومة كلها.
4. تتعامل مع الأمن السيبراني كبنية تحتية وطنية، لا مجرد نفقات تقنية.
التحذير الأخير: التقدّم بلا حذر هشٌّ بطبيعته
ستستمر التكنولوجيا في التقدم، والذكاء الاصطناعي سيزداد ذكاءً، ومراكز البيانات ستتضاعف. لكن إن لم يتعلم العالم أن يسير بالحماية بالسرعة نفسها التي يسير بها في الابتكار، فسيبقى الاقتصاد العالمي كبيت من زجاج يلمع على السطح، ويتشقق من الداخل. الانهيار الكبير المقبل قد لا يأتي من أزمة ديون أو صراع نفطي أو اضطراب سياسي، بل من «سطر كود». ومن يسعى إلى التقدم دون استعداد، لن يُصاب بالتعطّل فقط، بل سيكون اسير اعتماديته على الرقمنة.
* الرئيس التنفيذي لشركة دو كابيتال في سي، ومحاضر زائر في ريادة الأعمال، ومؤسس الغرفة الإسلامية العالمية للتجارة والصناعة عبر الإنترنت. وهو أيضاً متحدث عالمي في مجالات الاستراتيجية وتطوير الشركات الناشئة، ويُعرف برؤاه في الاقتصاد وبناء منظومات أعمال مبتكرة، وأخلاقية، وقابلة للتطوير.