قد يبدو لبعض الإعلاميين والمحللين أن الجمهورية الخامسة تعيش أزمة في فرنسا، لكن وفق ما نرى، لا تعاني هذه الجمهورية أي أزمات، بل هي أزمة حُكم على المستويين: الرئاسي والحكومي.
لقد تدَّنت شعبية الرئيس إيمانويل ماكرون كثيراً، حيث تراجعت في أحد آخر استطلاعات الرأي التي نُشرت في نهاية الأسبوع الماضي إلى نسبة 14 في المئة، وهي النسبة التي كانت أيضاً من نصيب الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند في فترة من فترات رئاسته.
بدأت مؤشرات الأزمة الرئاسية مع حل الرئيس الفرنسي للجمعية الوطنية الفرنسية في 9 يونيو 2024، مما سمح بوصول عددٍ لا بأس به من نواب اليمين المتطرِّف الفرنسي، وكذلك من حزب «فرنسا الأبية» إلى جانب نواب عن الأحزاب: الاشتراكية، والخضر، والشيوعية، إلى مقاعد هذه الجمعية، وكانت النتيجة عدم وجود أغلبية لحزبٍ بعينه تدفع برئيس الجمهورية لاختيار رئيس للوزراء منه.
ولاحت نتيجة لذلك الأزمة على المستوى الحكومي، حيث لم يُفلح أي من رؤساء الوزراء الثلاثة الذين عيَّنهم رئيس الجمهورية، وفي خلال عامٍ واحد فقط، في الحصول على ثقة الجمعية الوطنية على التشكيلات الوزارية أو موافقتها على اقتراح ميزانية 2026، والتي سعى لتقديمها هؤلاء الرؤساء. فسقطت حكومة تلو أخرى، بل رُفضت التشكيلة الحكومية الأخيرة التي كُلف تشكيلها وزير الجيوش الفرنسية، بمجرَّد تداول أسماء الوزراء وعرضها على مختلف الأحزاب الفرنسية، وحتى قبل طلب نيل الثقة، مما دفع برئيس الوزراء المكلف بإعلان انسحابه، تاركاً لرئيس الجمهورية اختيار مكلف جديد لرئاسة الوزراء.
أسس الجنرال شارل ديغول الجمهورية الخامسة عام 1958، وزوَّدها بدستورٍ متجانس، وجعل لهذه الجمهورية مؤسسات دستورية متينة الأركان قادرة على التعامل مع مختلف الأوضاع السياسية داخلياً ودولياً من جهة، والأوضاع الاقتصادية، والمالية، والاجتماعية من جهة ثانية. وتمتع الشعب الفرنسي بفضل هذا الدستور وتلك المؤسسات بنظام حُكم ثابت ومستقر ومتوازن في ظل هذه الجمهورية، وإذا ظهرت إشكالات أو أزمات، فهي تبقى على المستويين الرئاسي والوزاري.
كانت فترات الحُكم في العقود الستة الأولى من تاريخ الجمهورية الفرنسية متميزة برؤسائها، بدءاً بالجنرال شارل ديغول، مروراً بجورج بومبيدو، وفاليري جيسكار ديسان، وفرانسوا ميتران، وانتهاء بجاك شيراك. فقد نجح هؤلاء الرؤساء في إدارة شؤون فرنسا وأوضاعها داخلياً وخارجياً. كما تولَّى رئاسة الوزراء شخصيات فرنسية معروفة، فجورج بومبيدو كان رئيساً للوزراء أيام الجنرال ديغول، قبل أن يُصبح رئيساً للجمهورية، إثر تخلي الجنرال عن حُكم فرنسا عام 1969. وكان جاك شيراك رئيساً للوزراء أيام الرئيس فاليري جيسكار ديستان، قبل أن يتم انتخابه رئيساً للجمهورية، ولا ننسى ريمون بار، الذي كان رئيساً للوزراء أيام الرئيس ديستان، ونذكر أيضاً دومنيك دوفيلبان، الذي كان رئيساً للوزراء أيام جاك شيراك.
وآخر الأخبار قيام الرئيس الفرنسي بتكليف رئيس الوزراء المستقيل تشكيل حكومة جديدة، مما عمَّق أزمة الحُكم، حيث رفضت معظم الأحزاب الفرنسية المشاركة فيها، وعادت المطالبات باستقالة رئيس الجمهورية وتنحيه عن الحُكم، وإجراء انتخابات رئاسية جديدة، ليتضح لنا أنها أولاً وأخيراً أزمة حُكم تعانيها فرنسا.
* أكاديمي وكاتب سوري مقيم في فرنسا