بينما كان التصعيد الصاروخي بين إيران والعدو الصهيوني يضع المنطقة والعالم على شفا انفجار شامل، برز جانب آخر من الصراع، أكثر عمقاً وأشد خطورة، لا يتعلّق فقط بالمواقع النووية المستهدفة أو طبيعة الردود العسكرية، بل بما أحدثه من اضطراب لوجستي في مضيق هرمز، وتأثر مؤقت لشحنات النفط، مما أعاد تسليط الضوء على البعد البحري للنزاعات الكبرى، بوصفه ساحة هيمنة استراتيجية يتجاوز الحدود المباشرة للمعارك.
لقد أصبح من الجلي أن القرن الحادي والعشرين هو «قرن الممرات البحرية»، حيث يُعاد رسم ميزان القوى العالمي، ليس فقط من خلال امتلاك التكنولوجيا أو النفوذ الاقتصادي، بل من خلال القدرة على تأمين أو تعطيل المضائق الحيوية. وفي قلب هذا المشهد، تقف أربعة معابر بحرية تُعد بمنزلة شرايين الاقتصاد العالمي: مضيق هرمز، باب المندب، قناة السويس، ومضيق ملقا في جنوب شرق آسيا. ولا شك أن من يملك مفاتيح هذه النقاط، يمتلك بالضرورة أدوات التأثير والسيطرة على موازين القرار الدولي.
يُعدّ مضيق هرمز ممراً حيوياً لإمدادات الطاقة العالمية، إذ يمر عبره نحو خُمس إنتاج النفط يومياً. ورغم أن إيران لا تسيطر عليه بالكامل، فإن موقعها الجغرافي وانتشار قواتها في الجزر المجاورة يمنحها قدرة على تهديد الملاحة عبر أدوات كالألغام، الزوارق السريعة، والحرب السيبرانية. وقد استخدمته طهران مراراً كورقة ضغط سياسية من خلال احتجاز الناقلات ورفع مستوى التوتر البحري.
أما باب المندب، فيمثل نقطة عبور لا غنى عنها للنفط والسلع بين آسيا وأوروبا، بمرور أكثر من 6 ملايين برميل نفط يومياً. ومع وجود الحوثيين المدعومين من إيران قربه، تصاعدت الهجمات على سفن تجارية، خصوصاً تلك المرتبطة بالكيان الصهيوني، الأمر الذي يترافق مع سعي عدة دول لبسط نفوذها في الموانئ المجاورة للعب دور أمني يساهم في بلورة التوازن الدولي.
قناة السويس، هي بلا شك ممر شديد الأمية، اذ يمرعبره نحو 12% من تجارة العالم يومياً. وتبقى تجربة تعطلها في حادثة «إيفر جيفن» عام 2021 أبرز دليل على حساسيتها وأهميتها، إذ رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها مصر لتأمينها، تبقى القناة معرضة للتأثر بأي توتر في غزة، سيناء، أو شرق المتوسط.
وفي آسيا، يُعد مضيق ملقا شرياناً أساسياً لواردات الطاقة الصينية (80%)، مما يجعله محوراً في الاستراتيجية البحرية الأميركية لكبح الجموح الصيني، إذ تكثف واشنطن تحالفاتها البحرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بالتعاون مع اليابان والهند وأستراليا، لضمان رقابة مستمرة على هذا الممر الحيوي.
خلاصة القول، إن السيطرة على الممرات البحرية لم تعد مجرد مسألة تأمين خطوط إمداد، بل باتت تعني التحكم في حركة التجارة، وأسواق الطاقة، والأمن الغذائي، بل بإيقاع الاقتصاد العالمي ذاته. ولهذا تتسابق الدول نحو عسكرة البحار، وتعزيز وجودها في الجزر النائية والموانئ البعيدة، بدءاً من القواعد الأميركية في المحيط الهندي، وصولاً إلى التمركز الصيني في بعض المواقع الإفريقية، والسعي الروسي الدائم لإيجاد قواعد بحرية لها في سواحل المياه الدافئة في البحر المتوسط.
فهل نحن مقبلون على عصر «حروب المضائق» بدلاً من حروب الجيوش؟ وهل بات الصراع الحقيقي أو العلاقة المصلحية في عصرنا هي بين من يعبر البحار، ومن يملك القدرة على منعه؟
* كاتب ومستشار قانوني