حين أستقرأ سيرة خالد سعود الزيد الفكرية والأدبية والإبداعية، أجدني أقف أمام مفهومين راسخين يشكّلان الإطار الحامل لمسيرته: الأبوة والبنوة. فقد حفظ الزيد حق الأبوة ورعى حق البنوة في آن.
كان الزيد ممتثلاً لأوامر والده ونواهيه، شديد الإعجاب بشخصيته، مفتخراً به، إذ كان والده الملا سعود بن محمد الزيد (توفي في 16 سبتمبر 1965) أباً حكيماً، معلماً مثقفاً، له سمت العلماء ووقار الحكماء. وقد بقي أثره حاضراً في وجدان الزيد، حتى إنه حين وضع الجزء الأول من كتابه أدباء الكويت في قرنين (1967)، أهداه إلى والده بالنص التالي:
«إلى روح من أدبني وعلمني
إلى روح من دفعني إلى وضع هذا الكتاب
إلى روح سيدي الوالد سعود محمد الزيد الطريجي
أهدي هذا الكتاب»
يكشف هذا الإهداء عن عمق الصلة الأبوية التي ملأت نفس الزيد إعجاباً بأبيه، لتمتد من الأبوة الصلبية إلى الأبوة الفكرية والأدبية. فقد راح يبحث عن الرعيل الأول من أدباء الكويت، يحفظ أشعارهم، ويروي أخبارهم، ويسجّل ما توافر له من معلومات عن حياتهم وتكوينهم الثقافي والأدبي، مقروناً بما وصل إليه من نصوص شعرية كان الزمان بها شحيحاً. وهكذا أراد في سفره الرائد أن يترجم للآباء الأدباء ويحفظ ما تبقى من آثارهم ليظل الحاضر موصولاً بالماضي جيلاً بعد جيل.
وفي مرحلة الحيرة التي انتابته وهو يبحث عن الحقيقة خارج المذاهب المتصارعة والتيارات المتخالفة، كان يردد: «متى تنشق سماواتي وتأذن لربها ذاتي». وقد وجد ضالته حين أدرك معنى الأبوة الروحية: بيتاً يأوي إليه، وكعبة يتوجه إليها، وقبلة ينشدها. فقال في شعره:
يا كعبة العافين يا وجه الحقيقة يا سناها
جئنا إلى الأرض المقدسة الحمى إنا فداها
يا قبلة صلى لها الوجدان ما أحلى شذاها
ما كان غيرك في قديمات العصور وما تلاها
يا واحداً في القبلتين لأنت أول من بناها
إنها أبوة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء في صدره مشكاة وجوده، وتهتك أنوارها حجب روحه، فيبصر في قلبه مشهده، كما يقول:
«مزق ما حولك من حجب
يا قدس الأقداس
ارفعني نحو فم الشمس
لعل الركب يراني»
وإذا كانت هذه الأبوة قد تجلت في حياته وفكره، فإن البنوة كانت حاضرة في سلوكه ووجدانه. فقد كان نعم الأب لأبنائه، يرعاهم في حضورهم حديثاً، وفي غيابهم دعاءً، يحنو عليهم ويخفض لهم جناح الرحمة. وقد عبّر عن ذلك أبلغ تعبير في قصيدته ولدي (1969):
على وجهه صورتي لو يعي
وفي مقلتيه صدى منبعي
وإن ردد القول لي (يا أبي)
أجبت: نعم يا حشا أضلعي
لم تقتصر بنوته على ابنه، بل اتسعت لتشمل كريمته أيضاً، إذ ارتجل في حفل زفافها (دلال) يوم الجمعة 20 مارس 1998 أبياتاً تفيض حباً واعتزازاً:
قد أَقْبَلَتْ زينةُ أَتْرابِها
تخطرُ بالحسنِ وجلبابَها
طرّزها النورُ بأثوابِها
ما أروعَ النورَ في أثوابِها
وتكشف هذه الأبيات عن الفرحة الغامرة التي غمرت قلبه وهو يرى صغيرته بالأمس عروساً اليوم، تخطر بالحسن في جلبابها، النور قد طرز أثوابها، واللؤلؤ المنثور أنسابها.
هكذا ظل الزيد يتقلّب بين الأبوة والبنوة، يأخذ من الأولى ليهب الثانية، ويستمد من الثانية ليؤكد الأولى. فرحمة الله عليه في أبوته وبنوته، وفي ما تركه لنا من معانٍ رفيعة وكلمات عليّة، تستنهض فينا الوعي وتجدّد فينا الوجود.