من المسلَّمات أن الترف لا يولِّد الفن.
الضيق المادي والصعوبات اليومية هما حلفاء الحركة الإبداعية الحقيقية.
فان غوخ تسلف من جيرانه ليأكل، فهد العسكر ما ركب جاكوار، ولولا عطف الملكة إليزابيث على شكسبير، لتعود سريعاً على شرب ماء البحر.
هذا هو الرد الفصيح حين تسمع شكاوى الفنانين الكويتيين عن غياب الدعم، مقارنةً بما يتمتّع به أقرانهم في بعض دول الجوار.
لكن أعيان كويتنا الحبيبة أبخص بدروس التاريخ، فهم يعلمون أن الطريقة الأصح لدعم الحركة الفنية والفكرية ليست بوضع استراتيجياتٍ ولا باحتضان المواهب، بل بخلق بيئةٍ خانقة تُنتج العباقرة كما تُنتج الصحراء السراب.
فالفنان، في فلسفتهم، كالعبد: لا يُشترى إلا والعصا معه. وكلّما ضيّقت عليه ومزّقت أحلامه وأفقرته أبدع أكثر وجلب المجد لوطنه.
فإن كنت مسرحياً حقيقياً، فتفضل: اصنع مسرحك... بدون مسرح.
وإن كنت سينمائياً، روح، جيب أوسكار بدون ذرة دعم.
وإن كنت كاتباً، ابدع بدون ترف حرية التعبير.
وإن كنت فناناً تشكيلياً، فارسم بدم أمعائك.
نعم، هذه هي أسرار الإبداع في ديرة أم أحمد العجافة... ويأتي هذا الوضع نتيجة تراكم سياسات ثقافية متردية ومحدودة الأفق عبر عقودٍ طويلة.
ولعلّ أبرز تجلّيات مشروع تجفيف الوعي الثقافي الكويتي ما آل إليه حال المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب— مؤسسة كانت يوماً حية وفاعلة، وبحكم عقود من تقليص مواردها وتحجيم أدواتها أصبحت اليوم منهكة بالإهمال، لاهية بأداء دورها الرمزي في توزيع الدروع وتنظيم بوفيهات الافتتاح والختام أكثر مما تُحيي المشهد الثقافي الوطني، وتجلى ذلك بمرور فعالية مثل «الكويت عاصمة الثقافة العربية» التي يفترض أن تكون منارة في المنطقة على مدى هذا العام قد مرت مرور الكرام –من تحت الساس- بلا أثرٍ يُذكر أو صدى يصل إلى الجمهور.
أمام هذا النصر الباهر لمشروع تجفيف الوعي الثقافي، ليس بدعة أن يتبنى المسؤولون العقيدة الليبرالية العرجاء، التي ترى في استثمارات القطاع الخاص خلاصاً للذوق العام، وطوق نجاةٍ لما أفسده الزمن.
فتعال، أيها الفنان الكويتي الشاطر:
إن رغبت في الاستفادة من أحد المرافق الحكومية الداثرة، جيب شيكك المصدّق، وادخل مزادا حرّاً، ونافس بنوطك تجار المرقوق ووكلاء السلاح، وورينا شطارتك.
وفي الختام، أناشد معالي السادة الوزراء الكرام: لا تسمحوا لشيوعي «بوشنب عتيج» أن ينصب عليكم، ولا يكون يتسلل صوبكم «مستشار أجنبي مليق» ليقنعوكم أن الثقافة ركيزة وطنية لا تقل شأناً عن النفط والأمن، أو أن الفن قضية وجود لا رفاهية.
فواقعنا يقول، وتاريخنا يشهد:
إن كنت مبدعا كويتيا، فعليك أن تأكل هوا.
*******
* عبارةٌ شعبيةٌ تسلَّلت إلى قاموس الشكسبيريات، فحين سُئل الأمير هاملت عن صحته، أجابَ قائلاً: «آكلُ الهواءَ المفعمَ بالوعود». (فصل 3، مشهد 2)
*كاتب ومخرج مسرحي