تهميشٌ ناعم... لإقصاءٍ صامت.
في زمن تُوزَّع المناهج بالتوصيل السريع، وتُطبخ السياسات التعليمية خلف الأبواب المُغلقة، يُستبعَد صاحب الرسالة، ليُصبح موظف تنفيذ، لا شريك بناء.
يُستدعى عند التنفيذ... ويُقصى عند التخطيط.
أيها القلم، هل تكتب من دون أن تستأذن الورقة؟ هكذا يُرسم مستقبل أبنائنا، بلا مشورة من حامل الطباشير. تُعقد المؤتمرات، وتُطلق المبادرات، وتُصاغ استراتيجيات التغيير... والمعلم غائب.
هل أخبروه بأن المناهج تغيَّرت؟ هل شاركوه في اختيار الأدوات؟ أم أبلغوه لاحقاً... بصفته «آخر مَنْ يعلم»؟
في دراسة نُشرت في Teaching and Teacher Education، أقرَّ 72 في المئة من معلمي الشرق الأوسط بأنهم لم يُستشاروا إطلاقاً عند تغيير المناهج، فيما أُجبر 65 في المئة منهم على تطبيق أدوات تكنولوجية لم يُدرَّبوا عليها.
أي عدالةٍ هذه؟ أن يُزج بالمعلم إلى الميدان عارياً من المشاركة، مُثقلاً باللوم؟
تخيَّل طبيباً يدخل غرفة العمليات، ليكتشف أن الفريق تغيَّر، وأن البروتوكول أُعيدت كتابته من دون علمه، ثم يُحاسب، إن فشل!
المعلم يُحاسب كل يوم، لأنه الواجهة... ولكن مَنْ كتب السيناريو؟ ومَنْ وضع النص؟ ومَنْ اختار المُعدات وحدَّد الوقت وقرَّر أن النجاح مسؤولية فردية؟
نُطالبه بأن يكون: مربياً، محفزاً، إدارياً، تقنياً، قانونياً، نفسياً، رقمياً... ثم لا يُسأل!
كأننا نقول له: كُن كل شيء... إلا أنت. نُجبره على الحضور الجسدي، ونُنكر وجوده المعنوي. نحمِّله فشل منظومة، ثم نُقصيه عن إصلاحها. ونتساءل بعدها ببراءة: لماذا انطفأ الشغف في عينيه؟
المعلم ليس جهاز تنفيذ، بل عقل تربوي يحتاج إلى أن يُصغى له، ويُحتضن فكره، ويُستثمر رأيه.
فكم من فكرةٍ تعليمية رائعة وأُجهضت لأنها خرجت من فم معلمٍ ميداني لا يحمل لقباً وظيفياً رفيعاً! وكم من إصلاحٍ وهمي انهار لأنه أُسِّس من فوق رؤوس مَنْ في الميدان!
في نظام يُقصي المعلِّم، تموت الجودة اختناقاً داخل شعاراتها.
التعليم الحقيقي لا يُدار من المكاتب العُليا فقط، بل من القلوب التي تُعلّم، من الحصص، من الفصول، من الطباشير الذي خفت صوته، لكنه لم يخفت أثره.
نعم، هناك معلمون مقصِّرون، لكن مَنْ الذي قصَّ أجنحتهم؟ ومَنْ الذي قزَّم أحلامهم؟ ومَنْ الذي وضعهم على الهامش؟
هل نلوم الشمعة إذا ذابت، أم الغرفة التي لا نافذة فيها؟
يا صانع القرار، لا تطالب المعلم بالمثالية ثم تعزله. لا تُحاسبه على منهج لم يكتبه، ولا تُحمِّله نتائج قرار لم يُشارك فيه.
إذا أردت أن تُصلح التعليم، فلا تُصلحه فوق رأسه، بل من داخله.
ابدأ الإصلاح بكرسي واحد يُضاف إلى طاولة التخطيط... يُكتب عليه: «للمعلِّم». أعد إليه صوته، وكرامته، ومكانه في الحكاية، فهو ليس آخر مَنْ يعلم، بل أول مَنْ يُعلِّم.