في عالم تزدحم سماؤه بالقنابل أكثر من الطيور، وتوزع فيه بيانات الترشيح لجائزة نوبل للسلام في الوقت نفسه الذي توزع فيه الأسلحة الفتاكة، يطل السؤال الأخلاقي الموجع: هل باتت «نوبل» تمنح لمن يملك مفاتيح الحرب أكثر ممن يملك شجاعة إنهائها؟ لقد علق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في مكتبه نموذجاً لطائرة 2- B تلك القاذفة التي استخدمت في قصف منشآت إيرانية، ووصفها بأنها النجاح المثالي للسلام. «هنا تبدأ المفارقة: سلام تنطقه القاذفات، ويسوق عبر القوة، ويُغلف بخطاب يبتسم أمام الكاميرات فيما الأرض تئن تحت قراراته».

سلام القاذفات من طهران إلى غزة

Ad

لم يكن دونالد ترامب رئيساً عادياً في علاقته بفكرة «السلام»، بل كان يرى في الحرب نفسها وسيلة لتحقيقه منذ فترة رئاسته الأولى حين أمر شخصياً باغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني عبر ضربة جوية في بغداد، واعتبرها ضربة استباقية من أجل السلام العالمي «قال يومها: كان علينا أن نمنع حرباً كبرى، وأنا فعلت ذلك، لكن التاريخ سجلها كأول اغتيال مباشر لقائد دولة في مهمة رسمية منذ الحرب العالمية الثانية».

تحت إدارته انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وفرضت مئات العقوبات على إيران، حتى شل اقتصادها وأنهك شعبها. ثم أعلن بفخر أن بلاده تخوض الحرب الاقتصادية الأكثر فاعلية في التاريخ الحديث. وفي الشرق الأوسط، لم يتردد في الانحياز المطلق لإسرائيل، بل بارك علناً الحرب على غزة واعتبرها حقاً مقدساً في الدفاع عن النفس، «أما صور الأطفال تحت الركام، والنساء الهاربات من الأنقاض، فلم تكن في معجمه السياسي سوى (أضرار جانبية)».

هكذا بدت فلسفته في الحكم: سلام على المقاس الأميركي، يرسم على خرائط القوة لا على وجوه الضحايا.

جدار المكسيك الحديدي

لم تتوقف فلسفة القوة عند حدود الخارج، بل تسللت إلى الداخل الأميركي ذاته في كل خطاب تقريباً، كرر ترامب عبارته الشهيرة سنبني جداراً عظيماً على حدود المكسيك، والمكسيكيون سيدفعون ثمنه، لكن الجدار لم يكن مجرد حاجز من الأسمنت، بل حائطاً نفسياً عازلاً بين أميركا والعالم، يرمز إلى سياسة الانغلاق والخوف من الآخر.

ترامب وكراهية المسلمين

أصدر ترامب قراراً بحظر دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة إلى الولايات المتحدة معلنا «الإسلام يكرهنا. لا يمكننا أن نغض الطرف عن ذلك» بهذه الجملة القصيرة، تجاوز ترامب المهاجرين إلى الإسلام ذاته، محولاً الخلاف السياسي إلى عداء ثقافي وديني صريح.

خطاب كهذا لا يصنع السلام بين الأمم، بل يؤسس لقرون من سوء الفهم والكراهية المتبادلة، ويُعيد إنتاج فكرة «التفوق القومي» تحت لافتة الأمن القومي.

حين تتحول وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب

تحت شعار اجعلوا أميركا عظيمة من جديد، ضخ ترامب في وزارة الدفاع ميزانيات غير مسبوقة تجاوزت 740 مليار دولار سنوياً، مصرحا لقد بنينا آلة حرب لا يمكن لأي قوة على الأرض أن تواجهها، واعتبرها ضمانة السلام الوحيدة. لكن هذا المفهوم ينقلب تماماً على فلسفة جائزة «نوبل» التي ولدت لتكافئ من يسعى لتقليص الجيوش ونزع التسلح، لا من يُحوّل الردع إلى عبادة سياسية، إنه تناقض أخلاقي يختبر جوهر الجائزة ذاتها قبل أن يختبر مستحقيها.

«نوبل» بين المبدأ والمجاملة السياسية

تمنح نوبل لمن قدم أعظم خدمة للأخوّة بين الأمم. لكن ما حدث مع ترامب يكشف عن خطر متزايد في تسييس الجائزة فلم تستند الترشيحات إلى إنجاز إنساني أو اتفاقية سلام مستدامة، بل إلى تحالفات ومجاملات دبلوماسية.

هذا يثير سؤالاً وجودياً حول نوبل نفسها: هل لا تزال أداة لتكريم الضمير الإنساني، أم أصبحت رمزاً دبلوماسياً في لعبة النفوذ الدولي؟

اللجنة النرويجية، التي تؤكد استقلالها رسمياً، تجد نفسها محاطة دائماً يضغط القوى الكبرى واعتبارات الإعلام والسياسة.

ضحايا الصمت من الصحافيين إلى الأطباء والإنسانيين

في الوقت الذي تطرح فيه أسماء زعماء الحرب على منصات الجوائز، هناك في الميدان من يضحون بصمت من أجل أن يبقى العالم إنسانياً. وفق لجنة حماية الصحفيين (CPJ)، قتل أكثر من 190 صحافياً في عام 2024 وحده أثناء تغطيتهم النزاعات في غزة، السودان، وأوكرانيا.

وفي غزة، تشير تقارير الأمم المتحدة إلى مقتل أكثر من 170 موظفا من وكالة الأونروا منذ بداية الحرب، وهم يحاولون تقديم المساعدات تحت القصف. كما قتل مئات الأطباء والممرضين الذين أصروا على البقاء في المستشفيات رغم انقطاع الكهرباء ونفاد الأدوية. أما المحكمة الجنائية الدولية (ICC) ومحكمة العدل الدولية (ICJ)، فتمثلان ما تبقى من ضمير قانوني عالمي، تتحركان ببطء بسبب تعقيدات السياسة، لكن وجودهما وحده يذكر العالم بأن العدالة لیست ترفاً بل شرطاً لبقاء السلام. إن هؤلاء - الصحافيون الأطباء، العاملون في الإغاثة القضاة - هم من يجسدون المعنى الحقيقي لنوبل، لا أولئك الذين يتفاخرون بأن السلام يصان بالخوف.

«نوبل» في اختبار الضمير العالمي

حين تطرح أسماء مثل ترامب لنيل جائزة نوبل، لا يُختبر المرشح فحسب، بل تُختبر القيمة الأخلاقية للجائزة نفسها. لقد منحت نوبل ذات يوم لزعماء خاضوا الحروب ثم تابوا عنها، مثل نيلسون مانديلا ومناحم بيغن، لكن الفرق أن أولئك سعوا إلى المصالحة، أما ترامب فلايزال يرى في الحرب مجداً، وفي القسوة ضرورة. نوبل ليست ميدالية تلمع على الصدر، بل مرآة تعكس ضمير الإنسانية.

نوبل أكثر صدقاً وعدلاً

ربما آن الأوان لإعادة تعريف معايير جائزة نوبل للسلام، يجب أن تنتقل من مكافاة «الزعماء» إلى تكريم الذين يصنعون التغيير الحقيقي كالأطباء الذين ينقذون الأرواح، والصحافيين الذين يواجهون الدبابات بالكلمة، والمؤسسات الإنسانية - كالأونروا، وأطباء بلا حدود، ومحكمة العدل الدولية، التي تحارب الموت بالضمير لا بالسلاح. ينبغي أن تتبنى اللجنة نهجاً جديداً أكثر شفافية واستقلالاً، يُعلن المعايير والأسباب، ويبتعد عن الحسابات السياسية والإعلامية.

* وزير الصحة الأسبق