حين يتكلم السكون أبجدية بلا حروف.
الصمت ليس حالة واحدة، بل لغات متعدّدة تتكلم بغير صوت، ولكل نوعٍ منه نكهة وملمح ومعنى خفي. إليكم بعض الصور الأدبية لأنواع الصمت:
صمت الاكتئاب: هو الفراغ الممتد بين الضلوع، جدار من ثقلٍ يطبق على الروح، صمت لا يُخفي سوى انطفاء الشغف... هو ليلٌ بلا نجوم، فراغٌ يبتلع الحروف قبل أن تولد، أنينٌ مكتوم لا يجرؤ على الخروج.
صمت الاحترام: هو وقفة وقار، يترك للكلمات هيبتها وللآخرين مكانتهم، صمتٌ يقول أكثر مما تقول المجاملات... فهو وقفةٌ مهيبة أمام المعاني الكبيرة، خشوعٌ للكلمة وللروح التي تستحق الإصغاء.
صمت الانبهار: هو لحظة يتجمد فيها الزمن، حين تعجز الحروف عن مجاراة الجمال أو العظمة، فتكتفي العيون بالبوح... انبهارٌ يجمّد الألسن ويطلق العيون لتتكلم وحدها، فهنا لا مكان للشرح، فالجمال أبلغ من كل بيان.
صمت التخاذل: هو عجزٌ يتستر خلف الصمت، انسحاب بلا شجاعة، واعتذار صامت لم يُعلن... هروبٌ في ثوبِ هدوء، ضعفٌ يختبئ خلف ستارٍ من لامبالاة.
صمت للكف عن الجدال: هو حكمة التعب، حين يدرك المرء أن الكلمة قد تتحول إلى سلاح، فيختار أن يحفظ طاقته بالسكوت... هو راية بيضاء يرفعها العقل حين يتيقّن أن الطريق مسدود، وأن الحكمة هي في التراجع عن معركة الكلام.
صمت الغضب: هو بركان مكبوت، يسبق الانفجار أو يذوب داخله في سرّ لا يراه أحد... إنه بركانٌ يختزن حممه في الأعماق، إمّا أن ينفجر، أو يحرق صاحبه من الداخل.
صمت الحُب: هو أوضح اعتراف، يختبئ بين النظرات، ويقول ما تعجز عنه العبارات. وصمتُ موسيقى لا تُعزف إلا بين قلبين، حديثٌ من العيون، ورسالة لا تحتاج إلى ترجمة.
صمت الحِلم: هو قدرة على كبح النفس، وتفضيل العلوّ على النزول إلى مستوى الخصام. إنه تاج العظماء، حين يعلو المرء على نزاعٍ تافه، فيصير صمته نُطقاً أرفع من كل جدال.
الخلاصة:
كل صمتٍ إذن هو صوتٌ من نوع آخر، لغة بين السطور، ورسالة لا تُكتب بالحروف بل تُقرأ بالروح.
فهو ليس غياباً للكلام، بل حضورٌ آخر للمعنى. هو لغة لا يتقنها إلا من يقرأ بالروح لا بالأذن، ومن يسمع في الفراغ أصواتاً لا تنتهي...