تخَيَّل غرفة يجلس فيها الأب والأم وأطفالهما، وكلُّ واحدٍ منهم مغمورٌ في شاشةِ هاتفه، لا كلامَ، لا نظرات، لا تواصلَ حقيقياً... هذا هو مشهدُ بيوتنا اليوم. أصبحنا كلُّنا مدمنين... إلا من رحمَ ربي. لم يعد الهاتفُ مجرَّد وسيلة اتصال، بل أصبح عنصراً أساسياً في حياتنا، يسرق أوقاتَنا وأفكارَنا، وما بدأَ كفضولٍ طفوليٍّ أصبحَ إدماناً مبكِّراً يلتهم ساعات من حياة أطفالنا ومراهقينا قبل أن يدركوا حجم الخطر.

كنا نعيش من دون هواتف ذكية، نقرأ، نلعب، نتواصل وجهاً لوجه. واليوم، الهاتف والإنترنت أصبحا من أهم مقومات الحياة، بل أصبح من الصعب على الآباء متابعة ما يشاهده أطفالهم، فالتكنولوجيا أصبحت لصيقةً بالطفل، ويعرف كيف يخفي نشاطاته بسهولة.

Ad

برامج مثل TikTok تأخذ الطفلَ من فيديو إلى آخر، تسرق وقته، وتترك آثاراً نفسيةً وجسديةً قد تستمرُّ مدى الحياة. والخطر ليس على الفرد فقط، بل يمتدُّ إلى الأسرة والمجتمع وعلى الرأي العام الذي أصبح يُشكّل ويُوجَّه عبر هذه الوسائل المضللة التي تؤثر في الناس أكثر من أي شيء آخر.

المقارنة بالمخدرات ليست مبالغة: متعاطي المخدرات يضرُّ نفسه ويمكن معالجته، فيما مدمن التواصل الرقمي يضرُّ نفسه ومجتمعه، وصعوبةُ علاجه تكمن في شرعية هذا الإدمان وانتشاره المقبول اجتماعياً.

الحل يبدأ بتحرُّكٍ جماعي: الأسرة تحدِّد أوقاتَ الهاتف، وتشجِّع البدائل، ويكون الأب هو القدوة في ذلك، المدرسة والمجتمع يوجِّهان ويدرِّبان على استخدامٍ آمنٍ للتكنولوجيا، الدولة تضع تشريعات صارمة، والإعلام يقدم محتوى هادفاً. ولا نغفل البُعد الروحي، فالاقتراب من الله يعزِّز ضبطَ النفس، ويزرع المسؤولية تجاه الذات والأسرة والمجتمع.

في النهاية، إدمانُ وسائل التواصل الاجتماعي ليس مشكلةً فردية، بل ظاهرة مجتمعية تتطلب وعياً جماعياً وتحركاً متضافراً من كل الأطراف. وإذا لم نتحرَّك الآن، فسنجد أنفسنا أمام أجيالٍ ضائعة، وبيوتٍ بلا روح، ومجتمعات بلا روابط... مَنْ يترك الشاشات تسيطر على حياته، يسلم روحه ومستقبله وأجياله القادمة للظلام الرقمي، ولن يعرف الحُرية إلا حين يكتشف أن كل ما كان حقيقياً قد ضاع بلا رجعة.