بعد عامين، تنفَّست غزة الصعداء مع الإعلان الأميركي عن اتفاق بين حركة حماس وإسرائيل، ليكسر دوامة الحرب التي عانتها غزة. انتهت المعارك فجأة، وبدأت مرحلة جديدة تنطلق فيها الأسئلة: ماذا حدث؟ وكيف التقى الخصوم على طاولة واحدة؟

الإجابة لا تكمن في نصوص الاتفاق، بقدر ما تكمن في الطريقة التي أُديرت بها اللعبة.

Ad

فالرئيس الأميركي ترامب لم يتعامل مع غزة كملفٍ سياسي فقط، بل كمعادلة إقليمية أعاد ترتيب أطرافها بمهارة تفاوضية غير تقليدية أعادت إلى ذهني ما تعلمته في هارفارد حول منهج «التفاوض ثلاثي الأبعاد»، حيث أعاد رسم الخريطة قبل أن يبدأ الحوار، مؤكداً أن النجاح يبدأ حين تُغيَّر شروط اللعبة، لا حين ترفع الصوت داخلها.

فمنذ البداية أدرك ترامب أن الحل لن يُولد من داخل الطاولة، بل من حولها، فتح قنواته مع قطر وتركيا، ونجح في تحييد روسيا، ومنح السعودية موقع الشريك السياسي، فيما أسند إلى مصر مسؤولية الضمان الأمني، في حين أبقى للكويت موقعها المتوازن في الدعم الإنساني والدبلوماسي.

أعاد ترامب الثقة مع قطر حين انتزع من إسرائيل، لأول مرة، اعتذاراً دبلوماسياً للدوحة، في خطوة نادرة الحدوث، لكنها أعادت تعريف لغة التواصل في المنطقة، وأقر بأن أمن قطر مسؤولية أميركية، لأنها برعت في دور الوساطة السلمية التي قامت بها، وفتحت باب الحوار من خلالها.

أما في السعودية، فكان عليه أن يلعبها بورقة لم يمنحها لأحد من قبلها، وهي إدراج مشروع «حل الدولتين» ضمن بنود الصفقة كأفق سياسي نهائي، لتُصبح شريكاً في صناعة القرار، ولتفتح الرياض مشروع إعادة.

ويعرف ترامب أن أي اتفاق لا يمكن أن يمر من دون مصر، فهي الدولة التي تملك حدوداً مع غزة، ولها خبرة واسعة في الإشراف الأمني وتنسيق الترتيبات الأمنية، لتكون العمود الأمني لهذه الصفقة.

فيما واصلت الكويت أداء دورها الدبلوماسي الإنساني المتزن وسط اشتباكات المصالح.

بهذه المنظومة من الأدوار نجح ترامب في خلق واقعٍ جديد، كل طرفٍ بات يُدرك أن كُلفة الرفض أعلى من ثمن القبول، فـ «حماس» أنهكتها الحرب، وإسرائيل وصلت إلى حدود طاقتها، والدول العربية رأت أن الاستقرار اليوم أهم من الخطابات القديمة، حينها أصبحت «نعم» ممكنة، لا لأن أحداً غيَّر قناعاته، بل لأن الجميع تغيَّر واقعه، والنتيجة هي اتفاق يُعيد توزيع الأدوار، لا الحدود.

تحوَّلت «حماس» من فصيلٍ مقاتل إلى لاعبٍ سياسي، فيما أخذت السعودية زمام المبادرة والثقل، ورسَّخت قطر موقعها كوسيط شرعي، فيما كسبت مصر هدوء حدودها، وبقيت الكويت صوتاً إنسانياً متزناً.

في النهاية، لم تكن خطة ترامب معجزة، بل قراءة صحيحة للحظة نضجت فيها كل الأطراف على طاولة واحدة. لقد فاوض من خارج الطاولة، وصاغ اتفاقاً يعكس مبدأً بسيطاً، «لا أحد ينتصر في الحرب، لكن الجميع يستطيع أن يُوقف نزف الخسارة».

لذلك ستبقى صفقة غزة، بما لها وما عليها، نقطة تحوُّل في فن إدارة الصراع والمفاوضات أكثر منها حدثاً عابراً في تاريخ الشرق الأوسط.

* تُنشر بالتزامن مع صحيفة سبق السعودية، وصحيفة الأهرام المصرية، وصحيفة الشرق القطرية