يشهد الشرق الأوسط في هذه المرحلة واحدة من أكثر الفترات حساسية في تاريخه المعاصر، حيث تتقاطع الملفات النووية والأمنية والسياسية في مشهدٍ معقد يصعب التنبؤ بمآلاته. فإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران، بسبب مخاوف من انتهاكاتها للاتفاق النووي لعام 2015، أعاد إحياء التوتر بين طهران والغرب، وفتح الباب أمام مزيدٍ من الاصطفافات الإقليمية والدولية. فالعقوبات، بما تتضمَّنه من قيود على تجارة السلاح والأنشطة المالية، لن تقتصر آثارها على الداخل الإيراني، بل ستمتد، لتشمل علاقاتها بجيرانها العرب، خصوصاً الخليج العربي. في موازاة ذلك، يواصل التوسع الاستيطاني الإسرائيلي فرض واقعٍ جديد في الضفة الغربية، والقانون الدولي يُجرِّم ضم الأراضي بالقوة، لكن إسرائيل تمضي في سياساتها غير آبهة بالانتقادات الدولية، فيما تتصاعد المخاوف الفلسطينية من تغييرٍ جغرافي وديموغرافي يهدف إلى قطع التواصل بين القدس والضفة.
الاعترافات الأخيرة من دول كبرى بالدولة الفلسطينية جاءت كصفعة سياسية لنتنياهو، ورسالة واضحة أن المزاج الدولي بدأ يتحوَّل، الأمر الذي قد يفتح مساراً جديداً في الصراع.
أما على صعيد حرب الإبادة في غزة، فتبرز مقترحات وقف إطلاق النار التي تضع على الطاولة ترتيبات تشمل إطلاق الأسرى، وانسحابات مرحلية، ودوراً دولياً في إدارة المرحلة الانتقالية. هذه المقترحات، وإن عكست جهوداً دولية وعربية متنامية، فإنها لا تزال تصطدم بتعقيدات ميدانية، وبحسابات سياسية متضاربة بين تل أبيب وواشنطن ودول المنطقة.
في سورية، يعود ملف الأمن والتسوية إلى الواجهة مع طرح اتفاق أمني جديد بوساطة أميركية يتناول الانسحابات العسكرية، وضبط الحدود مع الكيان الصهيوني، وهو ما يطرح تساؤلات عميقة حول السيادة السورية، ومصير اللاجئين، والقُدرة الفعلية على إعادة الاستقرار.
وعلى خطٍ موازٍ، يعيش لبنان وضعاً شديد الحساسية والتعقيد، فمسألة حصرية السلاح بيد الدولة ما زالت تمثل معضلة سياسية وأمنية قد تصل إلى تهديد السلم الأهلي، وتُنذر بانهيار التوازن السياسي والوطني في الحكومة، وذلك كُلّه تحت ضغط استمرار الاعتداءات الصهيونية التي تضرب الجنوب والعُمق اللبناني بشكلٍ متكرر، مما يُفاقم من هشاشة المشهد الداخلي، ويضع لبنان أمام تحديات مزدوجة: مواجهة التهديدات الخارجية، ومعالجة الانقسامات الداخلية، في إطار الموازنة بين التدخلات الخارجية.
*****
لا يمكن فصل كل ذلك عن سياسة الإدارة الأميركية الحالية، حيث اعتاد العالم على مفاجآت الرئيس ترامب اليومية، التي يُطلقها من خلال تغريدات صباحية ومواقف مسائية، قد لا تتلاقى في شيءٍ سوى في رغبته الشخصية الجامحة بتسجيل اختراقات سياسية كبرى قد تناقض الواقع الميداني، ولا تنسجم مع مقتضيات التوازن الدولي.
وفي السياق أكثر ما يخشاه أهل غزة، ومعهم العرب، أن يكون إعلانه الأخير عن «حدث استثنائي عظيم في الشرق الأوسط»، كحال ما روَّج له تكراراً عن قُرب نجاحه في إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا!
إن المشهد الإقليمي اليوم أشبه برقعة شطرنج كبرى، حيث تتحرَّك كل الأطراف بخطوات محسوبة، لكن بخلفيات متناقضة. إيران المُعاقبة دولياً، ماضية- قدر استطاعتها- لفرض نفسها قوة نووية إقليمية. الكيان الصهيوني يحاول تكريس الميدان والاستيطان لمصلحة مآرب رئيس وزرائه المجرم. الفلسطينيون يكسبون معنوياً على مستوى الشرعية الدولية، والثمن مئات الآلاف من الشهداء والضحايا. لبنان يترنح بين تحديات الداخل والضغوط الخارجية. أما سورية، فهي بتحدٍّ صعب أمام استحقاق إعادة إنتاج دولتها السيدة القوية. وتبقى الولايات المتحدة، المايسترو الذي يقود الأوركسترا، بنسق غير واضح للمستمعين، الذي يلاحظون أن الأصوات المتنافرة تجعل اللحن النهائي أقرب إلى الصخب منه إلى التناغم.
بهذا المعنى، يبقى الشرق الأوسط ساحة مفتوحة على احتمالات متناقضة: انفراجات قد تفتح باب التسويات، أو انفجارات قد تجر المنطقة إلى صراعات جديدة أكثر تعقيداً. وللأسف، ربما يكون هذا هو الاحتمال الأقرب للتحقيق.
* كاتب ومستشار قانوني