حين تغلق الحدود يبدو البحر هو الأكثر اتساعاً، فكان هو وكانوا هم الذين عرف أجدادهم معنى العيش متلاصقين بالبحر، وموجه وملحه أيضاً. هم نساء ورجال من الخليج، خليجيون يحملون صفة واحدة وشغفاً بفك الحصار عن غزة، بل كل فلسطين.

من الكويت جاءت سرديةُ «الذهاب» القديمة: بلدٌ صغيرٌ في الجغرافيا، كبيرٌ في التجربة، يعرف معنى أن تُغلق الحدودُ في وجهك، وأن تبقى لك البحار. ومن البحرين، حيث تعلَّمت الأجيالُ قديماً صناعة اللؤلؤ على أناةٍ ومسافة، كانت الحكايةُ أكثر تعقيداً: بلدٌ ضيقٌ على التظاهر، ومتسعٌ في الحنين لفلسطين. ومن عمان كانت المشاركة كأنها استدعاء لذاكرة غنية، فقد عرف العماني والعمانية البحر كما يعرف البدوي الصحراء. من مسقط وصحار وصور انطلقت أساطيلها الضخمة تحمل البخور والتمور والنحاس، وتعود بالتوابل والحرير والعاج.

Ad

لقد شكَّل البحر لأهل الكويت والبحرين وعمان طريقاً للمعرفة والتجارة والسياسة معاً. وحين جلس الخليجيون والخليجيات على سطح قاربٍ متواضع مُتجهاً لكسر الحصار عن غزة، فهم يسمعون صدى تلك الأشرعة القديمة التي جابت المُحيطات، وأدركت أن للبحر وظيفة أعمق من مجرَّد الملاحة، وهو أنه مساحة وصل وجسر يحمل قِيم التضامن كما يحمل البضائع!

من هنا، من مدنٍ الملح، كما سمَّاها الرائع عبدالرحمن منيف، خرجوا: شبَّان ونساء من البحرين والكويت وعُمان، ومن بلادٍ كثيرةٍ أخرى، يشدّون على حبال الأمل، ويُبحرون نحو غزة، التي صارت مجازاً للجرح العربي، ووجهاً للعدالة المؤجَّلة.

أكثر من أربعين قارباً مدنياً تقدَّمت في صفٍّ طويلٍ شبيه بسرب من النوارس، أو ربما الملائكة، يحملون دواءً، وخبزاً، وكاميرات، وشهادات. برلمانيون وصحافيون ومحامون وناشطون، يُقارب عددهم الخمسمئة، تشدّهم فكرةٌ بسيطة، أن تكون السفينة وسيلة ليس للهجرة من واقع مؤلم ومذل والنجاة الفردية، بل تكون تجمُّعاً لفك الحصار. كانت تلك ذروةُ صيفٍ طويلٍ من المحاولات، نجا بعضها من القصف والتهديد، وتعطَّل بعضها الآخر في موانئ تونس وسواحل إيطاليا، لكنه واصل شد حباله وعمق إيمانه بعدالة ما يقوم به من عمل إنساني.

لم يكن البحر مُحايداً، حتى لو أراد، فقد تقدَّمت كل قوى الإبادة من هناك، لترسل طائراتها المسيَّرة، التي راحت تُطارد سفن الأسطول واحدة واحدة، واستخدمت كل الوسائل من ضربات وهزات، وربما لعب في مُحرِّكات بعض القوارب، كما ذكرت بعض الوسائل.

هم قراصنة الأرض والبحر، بل هم مَنْ يُتقنون فن مطاردة الأرواح الحُرة والبريئة.

ورغم ذلك تحرَّكت المراكب، مُحمَّلةً بكثيرٍ من المحبَّة والأمل، وتحمل معها أصوات شعوب الأرض، ومنهم شعوب الخليج، التي تبدو في مُجملها صامتة أمام ما يجري، لكنها غير ذلك لولا كثير من الخوف الذي تراكم في داخل النفس!

سفن الصمود تنتقل من بنزرت التونسية، ومن أوغستا في صقلية، ثم عبرت ما أسماه الناشطون بـ «المنطقة الصفراء»، وهي التي تُصبح فيها احتمالات القرصنة والخطف والاعتراض من قِبل الصهاينة أكثر احتمالاً.

في ساعات متأخرة من ليل الأربعاء فجر الخميس خرجت سلوى جابر من بوابة القادمين في مطار البحرين. كانت سلوى أول العائدين، بعد أن تعطَّل قاربها أكثر من مرة. وقفت رغم التعب والقلق على رفاقها ورفيقاتها الذين تركتهم هناك. لم يكن المطار في ذلك المساء مكاناً للعبور العابر، بل كان مسرحاً صغيراً للذاكرة. أضواؤه البيضاء انعكست على وجوهٍ جاءت تحمل الورد، وتلوّن المكان بعبق الرازقي البحريني والمشموم الذي طالما زيَّن الأفراح في بلدها الصغير. عرفت حينها أنه في طريق عودتها تحرَّكت القطع البحرية الإسرائيلية في تشكيلٍ مُحكم، وأُطفئت محرِّكاتُ القوارب تباعاً. أُوقِفَت واحدةٌ، وأُسِرَت أخرى، وانقطعت الاتصالات عن ثالثةٍ كانت على بُعد تسعة أميالٍ من شاطئ غزة، قبل أن يُعلن صباح 3 أكتوبر اعتراضَ القارب الأخير (مارينيت) على مسافة 42.5 ميلاً بحرياً من الساحل، وهو أقرب مدى منذ بدء الحصار البحري عام 2009.

اختطف الصهاينة كل النشطاء على متن القوارب، في موقفٍ مخالف لكل القوانين الدولية التي داسها الصهاينة منذ أكثر من 70 عاماً. رفضت سلوى الاحتفال بعودتها من قِبل أصدقاء وصديقات، وقالت: لن يكون ذلك حتى يطمئن قلبي وقلوبكم جميعاً عند الإفراج وعودة كل النشطاء، وهم أكثر من 400 شخص من أكثر من 47 بلداً، ومنهم الخليجيون: أمامة اللواتية، ومحمد عبدالله حسين، وسامي عبدالعزيز، وعبدالله المطوع، ود. محمد جمال، وخالد العبدالجادر.

* يُنَشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية