بادئ ذي بدء، فإنه بعد أفول الاستعمار القديم بقرارات من الأمم المتحدة، أولها: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 14/12/1960 بمنح شعوب العالم غير المستقلة حق تقرير مصيرها بنفسها، ثانيها: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في نوفمبر 1961 بتشكيل لجنة خاصة لإنهاء الاستعمار، وقد كان من بين أعضائها أغلب أفيال مجلس الأمن، ومن الدول العربية: مصر، والعراق، وسورية.

وبعد أفول عصر الانتداب البريطاني والانتداب الفرنسي، الذي صدر بهما قرارات من عصبة الأمم المتحدة، فرض ترامب قراراً أحادياً فرض على قطاع غزة انتداباً أميركيا إسرائيلياً لا يتمتع بشرعية دولية بل مصدره القوة والإذعان للأمر الواقع، من خلال مجلس سلام يترأسه، ويضم توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق.

Ad

وقد كانت الدول العربية والإسلامية التي دعاها ترامب إلى الاجتماع الذي عقده على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في عيدها الثمانين، قد أراد ترامب من دعوتها استيفاء شكل من أشكال الشرعية، ومن هنا كانت موافقتها على هذه المبادرة بإيقاف إطلاق النار موافقة فاترة بلا روح أو حماس، وفي إطارها العام لوقف نزيف الدم الفلسطيني في قطاع غزة، حيث تحفّظ البعض عنها بأن هناك بنوداً كثيرة غامضة أو غير واضحة، وهي في حاجة إلى مفاوضات، لتكون واضحة قابلة للتطبيق على أرض الواقع، باعتبار هذه الدول، مدعوّة كوسيط محايد في إنهاء الحرب، وهي تتوقع أن تبدي «حماس» الطرف الأصيل في هذه التسوية ملاحظاتها، بالرغم من أنها لم تدعَ إلى هذا الاجتماع.

والواقع أن هذه التسوية السياسية للقضية الفلسطينية تحدد مستقبل الوطن العربي كله، ومصر بوجه خاص، فمصر، هي الدولة المحورية في الوطن العربي بموقعها الجغرافي في قلب هذا الوطن، وقد كانت ولا تزال هدفاً استعمارياً، فهي أول دولة في تاريخ البشرية نشأت قبل التاريخ الميلادي بقرون، وأول دولة عصرية عربية نشأت في عصر محمد علي، عصر النهضة وقام بها مشروع تنويري في عصر الخديوي إسماعيل، وقامت بها ثورة ليبرالية سنة 1919 ومشروع قومي مصاحب لثورة 23 يوليو 1952.

وإن هذه المشروعات الأربعة أجهضها الاستعمار العالمي عندما جرى تحطيم أسطول محمد علي البحري وتمزيق جيشه سنة 1840م واحتلت بريطانيا مصر سنة 1882 م وقام الاحتلال البريطاني بإجهاض ثورة 1919 الليبرالية بمحاصرة قصر ملك مصر، في الرابع من فبراير 1942 بتدخل سافر يفرض على رئيس الدولة إقالة الحكومة وتشكيل أخرى وجاء الاستعمار الاستيطاني لإسرائيل في قلب الوطن العربي فلسطين، ومثلما تم إجهاض عصر النهضة المصرية إبان حكم محمد علي وإجهاض عصر التنوير إبان حكم الخديوي إسماعيل أجهضت التجربة الليبرالية المصاحبة لثورة 1919.

وزرعت إسرائيل في قلب الوطني العربي لتحجيم الدور المحوري لمصر فيه بقرار تقسيم فلسطين الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر سنة 1947 وجرى العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، والردة عن الوحدة المصرية - السورية سنة 1961، والعدوان الإسرائيلي على مصر في يونيو 1967 بمباركة ومؤامرة دبرها الاستعمار العالمي بليل، هذا بعض ما نقلته من محاضرة قيمة ألقاها محاضر مصري في باريس منذ ثلاثة عقود.

وفي سياق ما تنبأ به المحاضر حول مستقبل الوطن العربي وكأنه يقرأ مبادرة ترامب بإيقاف الحرب ونتائجها الحتمية، يقول «إن هناك تسوية وجرداً للحسابات القديمة والمستجدة تتم الآن في المنطقة العربية، بينما كل دولها تقريباً من مصر إلى سورية، ومن العراق إلى الجزائر، ومن السودان إلى لبنان، ومن ليبيا إلى اليمن، ومن تونس إلى الأردن، ومن الخليج إلى فلسطين، غائبة، فيها الضعيف أو الخائف، وفيها المضروب أو المحاصر، وفيها المفتوح أو المكشوف للتهديد أو الابتزاز».

وليس لي من مأخذ على المحاضرة والمحاضر في هذا السياق، إلا إغفال تجربة ليبرالية رائدة في الوطن العربي في مرحلة من مراحل تطوره هي التجربة الليبرالية الكويتية التي أرساها الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم في الدستور الكويتي الصادر في 11 نوفمبر سنة 1962.

وينعى في محاضرته التي ألقاها منذ عقود كأنه يرى، وهو راقد في قبره، إسراف السياسة العربية، في انتقالها خلف جدران مغلقة، ليحذرنا من أنه ليس أخطر على الوطن العربي من إرادة سياسية رسمية، تمارس عملها في الخفاء، والذي من شأنه أن ينزل بمطالبها ومستواها، ويؤثر على هيبتها وأهدافها، وكأنه كذلك يرى الواقع الأليم الذي تعيشه المقاومة الفلسطينية الباسلة، وإن «حماس» بالرغم مما حصلته وطرح القضية الفلسطينية على العالم كله فإن كفاحها من تحت الأرض والذي لم يكن لها خيار غيره جعلها بلا إرادة سياسية في هذه التسوية، والسلام في عقيدة ترامب يفرض بالقوة أو مزيد من الدماء، ولا خيار أمام هذه السياسة أو أمام الوطن العربي إلا الإذعان للأمر الواقع.

ويرى المحاضر أن هذا المسلسل الدرامي لا يمكن أن يكون محض مصادفة إلا إذا كان قانون المصادفة على مقاس العرب وعلى حجمهم، رغم اختلاف الظروف والعصور والرجال، وذلك تعسف في تفسير الأحداث يظلم المنطق، كما يظلم العرب.

إنه قانون العداء مع سبق الإصرار والترصد للأمة العربية، لكي لا تقوم لها قائمة، أو تتبوأ مكاناً في عالم الإمبراطوريات، كما تبوأت مكانها الإمبراطوريات الإسلامية في العصور الثلاثة الأموي والعباسي والعثماني.

فهل نجح ترامب بهذه التسوية السياسية للحرب في غزة في الالتفاف على عزلة إسرائيل التي تزداد يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد خطف أكثر من خمسمئة ناشط سياسي من أسطول الصمود، وهم ينتمون بجنسياتهم إلى 45 دولة، ومنهم نواب في برلمانات بعض هذه الدول؟!

وهل أصبح الطريق أمام ترامب ممهداً للحصول على جائزة نوبل للسلام؟

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.