الذاكرة ليست مجرَّد خزانة للأحداث الماضية، بل حديقة مخفيَّة تعود لتزهر كلما داعبها عبير قديم. هكذا تبدأ رحلة «أبوفهمي»، رحلة تمسك بنا برفق، تقودنا إلى زمن كان للفن مكان بالوجدان، قبل أن يزاحمه صخب السياسة وضجيج الأسواق واستشراء أغبرة الاستهلاك.

في تلك الحديقة تتناثر أزهار الذكرى، مُحمَّلة بروائح دهن العود والبخور والورد، عطر الأزمنة التي كان فيها الفن جزءاً من الهوية، لا هامشاً يُستهان به. لكن السياسة، حين وقعت أسيرة رهاناتها مع قوى المحافظة والتزمُّت لكسب الشرعية، صادرت الفنون البصرية والتشكيلية، وحفرت لها قبوراً باسم المُحرَّمات والعادات والتقاليد، وتركت أهل الغناء والتمثيل أسرى الاحتقار، وكأن صوت الإنسان ولحنه أو فن التمثيل مجرَّد عبثٍ لا طائل منه ولا يستحق البقاء.

Ad

هنا يأتي الروائي طالب الرفاعي ليُعيد الاعتبار لتلك الأرواح المُضيئة، عبر روايته «دوخي تقاسيم الصبا». من سرير المرض – سرير النهاية – ينطلق عوض الدوخي في رحلة استرجاع مشواره الفني، قبل أن يرحل عام 1979. «فلاش باك» يفتح دفاتر الطفولة: طفل عشق الموسيقى، هامَ بفن الصوت، تتلمذ على نبرات محمد الفارس البحريني، وأدرك مُبكراً أن الموسيقى ليست ترفاً، بل حياة.

لم يكن في جيب الطفل عوض ما يكفي لشراء عود. اشترى واحداً، وتقاسم ثمنه مع رفيقٍ له، ليلة عنده، وأخرى عند صاحِبه. هكذا تُولد الفنون العظيمة، من عنادٍ ضد الفقر، ومن شغفٍ يرفض أن يخضع لسطوة الواقع.

يتألق نجم عوض، يغنِّي الموال والصوت، ويصدح في النهمة على سفن الغوص. لم تكن هناك إذاعات رسمية بعد، سوى محطة «شيرين» المتواضعة، لكنه غنَّى فيها بعض الأصوات، واحداً تلو الآخر، حتى وصل بعد ذلك مع الإذاعة الكويتية إلى رائعته «صوت السهارى». أغنية غزلها من شجنٍ وحنين، حتى غدت جسراً يُعيدنا لأيام العيد البريئة، أيام لا يعرفها الآيفون، ولا صخب المولات، ولا مطاعم الفاست فود.

ومع أن السياسة اليوم أدارت ظهرها للفنون، وحاربت أصحابه، وكأنهم متطفلون على الوطن والهوية، إلا أنه في الماضي كانت الأمور مختلفة، فقد كان رجالاتها الكبار يمتلكون ذائقة راقية. الأمير عبدالله السالم كان يطلب كل عَصْر أن يسمع أغنية لعوض على الإذاعة. الوزير جابر العلي رعى الفنون خلال سنوات إشرافه على وزارة الإعلام. أما الشيخ جابر الأحمد، ولي العهد آنذاك، فقد تابع حالة الدوخي الصحية بنفسه، وأرسله مرتين للعلاج خارج الكويت.

رحل عوض عام 1979، لكن صوته لم يرحل. بقي طيفه حيَّاً في الذاكرة، يُلامس أرواحنا كلما تسلَّلت إلينا مقاطع من أغنياته. إحساسٌ طربيٌ عميق يرفعنا بعيداً عن اللحظة العابرة، ويُعيدنا إلى زمن الفن النقي.

شكراً للروائي طالب الرفاعي، هو لم يكتفِ بسرد الحكاية، بل عزف من «تقاسيم الصبا» مرآة تحفظ جمالاً كاد يُطمس، وترك لنا عهداً بأن الفن لا يموت، بل يُهاجر في الذاكرة حتى يجد مَنْ يستحضره من جديد.