باسمِ الحرف الذي ينهض من الأعماق، ويعلن رفضه للصمت... تحية إلى كل إنسان يحمل في صدره «نعم» حقيقية تستحق الحياة، و«لا» ضرورية تحمي سلامه النفسي وكرامته.

ولأن كل شيء قابل لإعادة التشغيل... حتى نحن، ففي كل أسبوع نأخذ لحظة تأمل نراجع فيها عادةً، فكرةً، أو علاقةً، ونسأل أنفسنا: هل نستمر بها أم نضغط زر «ريستارت»... ونبدأ من جديد؟

ففي زحام الحياة، حيث تدافع الأصوات وتتعارض الرغبات تأتي كلمة «لا» لتكون حاجز أمان نفسي، وجدار صدّ وجودي، لا تنفي الآخر، بل تؤكد الذات. فلماذا صارت هذه الكلمة البسيطة أحد أصعب الاختيارات على نفوس كثيرين منّا؟

Ad

إن العجز عن قول «لا» ليس تواضعاً، بل هو انتحار تدريجي للذات. إنه ذلك الصمت الذي يتراكم في الأعماق فيتحول إلى غضبٍ صامتٍ، وإحباطٍ مزمن، وضياع للهوية. فنحن أحياناً نخشى أن نخسر مكانتنا في عيون الآخرين، أو نخاف من نظرة المجتمع إن رفضنا طلباً، أو اعترضنا على قرار.

لكن الحقيقة التي تغيب عنّا هي أن قول «لا» في مكانها الصحيح ليس ضعفاً، بل هو علامةُ قوةٍ نادرة. إنها الشجاعة التي ترفض أن تكون نسخة من رغبات الآخرين، وتصر على أن تكون نفسها بكامل إرادتها. إنها الدبلوماسية الوجودية التي تحفظ التوازن بين متطلبات العلاقة وحقوق الذات.

السمة الأبرز لمن يعجز عن الرفض هي وهمُ أن قبول كل شيء يحفظ المكانة والمحبة، بينما الاحترام الحقيقي يولد من الحدود الواضحة. فأحياناً تكون «لا» الصريحة أجمل من «نعم» مُكرهة، فالمشكلة ليست في كثرة المطالب، بل في ضعف التمييز بين ما يُقبل وما يجب رفضه.

وهنا تأتي خطورة الشخصيات السامّة في حياتنا التي ترى في غياب القدرة على الرفض منجماً من ذهب تستغله، إنهم أولئك الذين يزرعون أطماعهم في حدودنا النفسية بكل براعةٍ ودهاء. إنهم لا يكتفون بأخذ ما نعطيهم، بل ينهبون حتى ما تحتفظ به لنفسك. إنهم يغرسون فيك الشعور بالذنب كلّما فكرت في الرفض، ويحوّلون كرمك إلى موردٍ لا ينضب لتحقيق مآربهم. إن فهم خريطة عمل هذه العقول هو أولى خطوات التحرر منها، فالحل ليس في مواجهتهم دائماً، بل في تغيير قواعد اللعبة من جذورها. أن تبني داخل نفسك حصناً من الوعي لا يقبل أن تكون أداةً في يد الآخرين.

ويبقى السؤال الفاصل: من أين نبدأ؟ درّب نفسك على النطق بـ «لا» في المواقف الصغيرة قبل أن تصل إلى المحطات الكبرى. ولا تكثر التبرير، ولا تثقل قلبك بالذنب، لأنك اخترت ذاتك. فكل «لا» ترفض بها ما لا يناسبك، هي في حقيقتها «نعم» عظيمة لحياة أنقى وأصدق، تعيشها بإرادتك لا بإملاءات الآخرين. تذكر أن الرفض ليس خصومة، بل فن واعٍ لإدارة التوازن النفسي والاجتماعي بكرامة ووضوح.

فلنضغط هذا الأسبوع زر «ريستارت»، لا لنعود إلى الوراء، بل لنعيد اكتشاف أنفسنا من خلال شجاعة الرفض الراقي. ولنبدأ من جديد في بناء علاقات تقوم على الصدق لا على الخداع والخيانة، على الاحترام لا على الإهانة.

ففي النهاية، أجمل وأقوى نعم في الوجود هي تلك التي تليها «لا» شجاعة تحميها من الضياع.

* إعلامية بحرينية