عندما يصف الاقتصاديون شرايين التجارة العالمية، نادراً ما يبدأون بالمطارات، بل يشيرون إلى الموانئ، تلك البوابات البحرية التي يمر عبرها نحو 90% من حجم التجارة العالمية. وبينما يستقطب الشحن الجوي الأنظار بسرعته، تحمل السفن بهدوء الجزء الأكبر من غذائنا وطاقتنا وآلاتنا وسلعنا المصنّعة. من دون موانئ تتوقف العولمة، ومن دون موانئ كفؤة تختنق الاقتصادات الوطنية تحت وطأة تكاليف لوجستية باهظة.

الكويت، الدولة الغنية بالنفط وصاحبة التاريخ التجاري العريق، تستعد اليوم لتأخذ مكانها على هذه الساحة البحرية عبر ميناء مبارك الكبير على جزيرة بوبيان. هذا المشروع ليس مجرد أرصفة خرسانية ورافعات حاويات، بل محرك اقتصادي استراتيجي قادر على إعادة تشكيل نمو الكويت القريب وازدهارها البعيد.

Ad

لفهم أهمية المشروع، يجب أن نفهم أولاً ما الذي تجلبه الموانئ للاقتصاد. فهي ليست مجرد نقاط دخول وخروج، بل أعمدة غير مرئية لتحولات اقتصادية كبرى.

القدرة التنافسية التجارية

كل اقتصاد يعتمد على قدرته في نقل البضائع بكفاءة. فالموانئ تقلل من كلفة الاستيراد والتصدير عبر تخفيف زمن دوران السفن، وتقليص الازدحام، وخفض تكاليف النقل.

* يقدّر البنك الدولي أن الموانئ غير الكفؤة قد ترفع تكلفة السلع المتداولة حتى 15%، بينما الموانئ الكفؤة تخفض هذه الكلفة.

* بالنسبة للكويت، هذا يعني واردات أرخص من الغذاء ومواد البناء والتكنولوجيا، وصادرات أكثر تنافسية للصناعات المحلية والمصافي.

ومتى دخل ميناء مبارك الكبير طور التشغيل الكامل، يمكن أن يصبح أسرع وأقل كلفة كبوابة تجارية في شمال الخليج، لا يخدم الكويت فحسب، بل أيضًا العراق وأجزاء من آسيا الوسطى.

التجمعات الصناعية والتصنيع

الموانئ تجذب الصناعات كالمغناطيس. حول كل ميناء عالمي بارز نشأت تجمعات صناعية: مصافٍ قرب روتردام، مصانع سيارات قرب طنجة - المتوسط، مراكز إلكترونيات قرب منطقة الشنغن.

* المنطقة الحرة في جبل علي بدبي تحتضن أكثر من 7500 شركة استقطبتها خطوط الملاحة.

* المنظومة الصناعية المرتبطة بميناء سنغافورة تسهم بنحو 7% من ناتجه المحلي، رغم افتقار البلاد إلى الموارد الطبيعية.

بالنسبة للكويت، يمكن لميناء مبارك الكبير أن يحتضن مناطق لوجستية، ومنشآت بتروكيميائية، ومراكز تصنيع خفيفة. بهذا يتحول من نقطة عبور إلى محرك لإنتاج القيمة، يحوّل الواردات إلى صادرات معاد تصديرها، والمواد الخام إلى سلع مصنّعة.

التخزين والأمن الاستراتيجي

الموانئ الحديثة ليست نقاط عبور فقط، بل مخازن ضخمة للطاقة والغذاء والسلع الاستراتيجية.

* صوامع الحبوب، ومحطات الغاز المسال، ومرافق التبريد في الموانئ تمنح الدول احتياطيات للأمن الغذائي والطاقي.

* رأس لفان رسّخ هيمنة قطر في الغاز المسال عبر قدرات تخزين هائلة مرتبطة بالميناء.

* ميناء طنجة - المتوسط جمع بين تدفق الحاويات والمناطق اللوجستية لتأمين مرونة الإمدادات.

الكويت بدورها تستطيع عبر ميناء مبارك الكبير استضافة صهاريج تخزين نفط، ومستودعات بتروكيميائية، وصوامع حبوب، ومرافق تبريد، مما يجعلها أكثر أمنًا وأيضًا مورّدًا للمنطقة.

النظام المالي والتأمين

كل شحنة تمر عبر الميناء تحتاج إلى اعتمادات مستندية، وتأمين، وضمانات مالية، مما يغذي صناعات كاملة في البنوك وشركات التأمين.

* في لندن وسنغافورة، يشكل التأمين البحري قطاعاً بمليارات الدولارات.

* قناة بنما أسست منظومة مالية وتأمينية ضخمة تساهم بشكل أساسي في أنشطة بحرية تمثل 30% من ناتجها المحلي.

صعود ميناء مبارك الكبير سيفتح أمام البنوك وشركات التأمين الكويتية مليارات من المعاملات سنوياً، من تمويل شحنات الحاويات إلى التأمين ضد المخاطر البحرية، ما يطلق طفرة موازية في قطاع الخدمات المالية.

الوظائف ورأس المال البشري

الموانئ مولّدات وظائف. فلكل وظيفة مباشرة كعامل رافعة أو مرشد بحري أو مهندس رصيف هناك وظائف غير مباشرة: سائقو شاحنات، موظفو مخازن، مطورو أنظمة، وحتى مطاعم تخدم العاملين في الميناء.

* دراسات تشير إلى أن وظيفة واحدة داخل الميناء تولّد من ثلاث إلى خمس وظائف خارجه.

* جبل علي يدعم مئات آلاف الوظائف في دبي والإمارات.

* ميناء طنجة - المتوسط وفر أكثر من 75 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة في المغرب.

بالنسبة للكويت، يشكل ميناء مبارك الكبير فرصة لتوليد عشرات آلاف الوظائف الجديدة، وبناء قدرات وطنية في علوم البحار واللوجستيات والهندسة والمالية، ما يساهم في تنويع سوق العمل بعيدًا عن النفط والقطاع الحكومي.

الاتصال الجغرافي والوزن الجيوسياسي

الموانئ أيضاً أدوات قوة ناعمة، تضع الدول على خرائط التجارة وتمنحها نفوذاً في الاقتصاد والدبلوماسية.

* سنغافورة استثمرت موقعها على مضيق ملقا لتصبح قوة اقتصادية ودبلوماسية.

* طنجة - المتوسط جعل المغرب بوابة إفريقيا الشمالية نحو أوروبا.

الكويت تقع في شمال الخليج، على تماس مع العراق وإيران وآسيا الوسطى، ومفتوحة على خطوط الملاحة العالمية عبر المحيط الهندي. ويمكن لميناء مبارك الكبير أن يصبح عقدة بحرية موثوقة، خصوصاً في وقت تواجه فيه طرق بديلة، مثل قناة السويس والبحر الأحمر، تحديات جيوسياسية.

مضاعفة الناتج المحلي

يتحدث الاقتصاديون عما يطلق عليه البعض «المضاعف البحري»، أي أن الاستثمار في الموانئ يرد أضعافًا مضاعفة. الموانئ الكفؤة تخفض كلفة النقل، تعزز الصادرات، وتجذب الاستثمارات الأجنبية.

* جبل علي يسهم بأكثر من 20% من ناتج دبي المحلي.

* طنجة-المتوسط يحقق تجارة بقيمة 85 مليار دولار سنويًا للمغرب.

* قناة بنما وموانئها تدر مليارات من الرسوم والخدمات.

بالنسبة للكويت، يمكن لميناء مبارك الكبير أن يسهم واقعيًا بما بين 5–10% من الناتج المحلي خلال عقده الأول من التشغيل الكامل، أي مليارات من الإيرادات غير النفطية.

مبارك الكبير: أفق اقتصادي جديد للكويت

من هذا المنظور، لا يُعتبر ميناء مبارك الكبير مجرد بنية تحتية، بل قصة نمو وطني.

* يمكن أن يكون مركز توزيع إقليمي للبضائع نحو العراق وما بعده.

* يمكن أن يدعم الأمن الغذائي والطاقي عبر مرافق تخزين عالمية المستوى.

* يمكن أن يطلق طفرة مالية موازية توسّع إيرادات البنوك وشركات التأمين.

* يمكن أن يخلق عشرات آلاف الوظائف، فاتحًا آفاقًا جديدة أمام الشباب الكويتيين بعيداً عن النفط.

* يمكن أن يجعل الكويت عقدة موثوقة في التجارة العالمية في وقت يبحث فيه العالم عن بدائل أكثر استقراراً.

هذا ليس افتراضًا، بل واقعًا حققته دول أخرى: جبل علي جعل دبي رائدة لوجستية، طنجة-المتوسط حوّل المغرب إلى نجم إفريقي، قناة بنما رفعت دولة صغيرة إلى مركز بحري عالمي. وبالمثل يمكن لميناء مبارك الكبير أن يدفع بالكويت إلى عصر جديد من الازدهار المتنوع.

الخاتمة: دولة تستعد للإبحار

الكويت تقف أمام لحظة حاسمة. لعقود، اعتمد اقتصادها على النفط، وهو نعمة، لكنه عمود وحيد. اليوم، مع ميناء مبارك الكبير، تستعد لبناء أعمدة متعددة للنمو، ترتكز على التجارة واللوجستيات والمالية ورأس المال البشري.

رؤية القيادة لهذا المشروع ليست مجرد حديد وحجر، بل بوابة إلى المستقبل. مستقبل تصبح فيه الكويت ليس فقط مورّدًا للخام، بل رائدة في الاقتصاد البحري، تشكّل مسارات التجارة عبر شمال الخليج وما بعده.

الموانئ هي أعمدة الاقتصاد غير المعلنة. وميناء مبارك الكبير يعد بأن يكون إعلان الكويت الصريح، أنها مستعدة للإبحار نحو عصر جديد من الازدهار والمرونة والحضور العالمي.

* الرئيس التنفيذي لشركة دو كابيتال في سي، ومحاضر زائر في ريادة الأعمال، ومؤسس الغرفة الإسلامية العالمية للتجارة والصناعة عبر الإنترنت. وهو أيضاً متحدث عالمي في مجالات الاستراتيجية وتطوير الشركات الناشئة، ويُعرف برؤاه في الاقتصاد وبناء منظومات أعمال مبتكرة، وأخلاقية، وقابلة للتطوير.