في العاشر من سبتمبر الماضي، اغتيل الناشط السياسي «المحافظ» من الحزب الجمهوري، تشارلي كيرك، أثناء إلقائه محاضرة في حرم جامعي بولاية يوتا. وقد عكست ردود الفعل على وفاته الانقسامات العميقة التي يعانيها المجتمع الأميركي اليوم. ورغم أن معظم منتقدي آراء كيرك المتشددة حول العِرق والنساء كانوا يحترمون آراءه حتى بعد وفاته، فإنهم تعرّضوا للمضايقة والترهيب من قبل أنصار كيرك المتطرفين على الإنترنت.
لكن ما هو أكثر إزعاجاً هو مدى إطراء أنصار كيرك له ولعمله، واستخدامهم المتكرر للغة دينية (مسيحية بالطبع) لوصفه. فقد أطلق أحد الكرادلة الكاثوليك المحافظين على كيرك لقب «مبشّر» و«رسولي»، مقارناً إياه بالقديس بولس. وذهب بعضهم إلى حد اتهام منتقديه بـ «الطعن في الدين» أو «تدنيس المقدسات».
وما يثير قلقي في كل هذا ليس مجرّد اختلافي مع أفكار كيرك، فأنا أرفض بشدة تصريحاته حول دونية أو عدم موثوقية السود أو المسلمين أو اليهود، أو دعواته لضرورة خضوع النساء للرجال، وغير ذلك الكثير. لكن ما يقلقني بشكل خاص هو إساءة استخدام لغة الدين من قبل أنصار كيرك. فمصطلحا «التجديف» (الاستهزاء بالدين) و«تدنيس المقدسات» لهما معانٍ دقيقة، ويشيران إلى أقوال أو أفعال مسيئة للمقدسات الدينية. لم يكن كيرك شخصية دينية، وبمجرد استخدامه لغة دينية للتعبير عن آرائه المحافظة، لا يصبح كلامه رسالة دينية. كثيراً ما نستخدم (أو بالأحرى، نسيء استخدام) اللغة الدينية في حياتنا اليومية، فنصرخ مثلاً «يا إلهي» عند إصابة إصبعنا، مصادفة، بضربة مطرقة، أو نُعبر عن دهشتنا بعبارة «يا يسوع المسيح».
هذه العبارات ليست تعبيراً عن الإيمان، بل نستخدمها بهذه الطريقة، لأن ثقافتنا قد منحتها دلالات عاطفية عميقة. في الواقع، ما نقوله لا يتجاوز معنى «أنا غاضب جداً» أو «أنا متحمس للغاية».
وباختصار، استخدام اللغة الدينية لوصف معتقدات أو أفعال غير دينية هو مجرد وسيلة للتأكيد. وينطبق الأمر ذاته عندما يستخدم الخطباء السياسيون أو الحركات السياسية لغة دينية في محاولة لإضفاء الشرعية أو القوة على آرائهم. وهذا ما يفعله القوميون المسيحيون، أو المسلمون، أو الهندوس، أو اليهود، أو البوذيون القوميون. فهم يغلّفون آراءهم السياسية بلباس ديني لإضفاء مزيد من الشرعية عليها. وغالباً ما يتجرأون على وصف معارضيهم بـ «الكفار» ورغم أن مسألة إساءة استخدام الخطاب الديني ليست جديدة، فإنها تتفاقم وتزداد خطورة.
ففي ستينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، كان الأميركيون منقسمون بشدة حول قضايا الحرب والعرق. وبينما قاد القس مارتن لوثر كينج جونيور وبعض القادة الدينيين التابعين له في مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية احتجاجات وأعمال تحدٍ سلمية للمطالبة بالحقوق المدنية، واجههم دعاة مسيحيون من الجنوب الأبيض يحذّرون من خطورة مخالفة إرادة الله، مستدلين بعقاب الله لـ «أبناء حام».
وفي الوقت نفسه، كان الكاردينال فرانسيس سبيلمان، من نيويورك، يسافر إلى فيتنام ليبارك الجنود الأميركيين وهم يقاتلون «الشيوعية الملحدة»، فيما كان الكاهن اليسوعي دانيال بيريجان يقود رجال دين ونساء في احتجاجات ضد الحرب، كثيراً ما أدت إلى اعتقالهم وسجنهم (وفي إحدى المرات بسبب إحراقهم ملفات الخدمة العسكرية لشبّان كان سيتم تجنيدهم). وخلال تلك الفترة، لا أذكر أن قادة حقوق الإنسان أو المعارضين للحرب أو أنصار التمييز العنصري أو مؤيدي الحرب وصفتهم وسائل الإعلام بأنهم قادة مسيحيون. ولم نكن نُشغل أنفسنا في سجالات لاهوتية طويلة لتحديد أي تفسير للمسيحية كان صائبا، أي تحديد من هم «المسيحيون الصالحون»، ومن هم «المسيحيون السيئون». بل كنا نحدد هؤلاء الأشخاص من خلال أفعالهم: إما أنصار الفصل العنصري أو قادة حقوق الإنسان، إما مؤيدو الحرب أو معارضوها. ويبدو أننا كنا ندرك، ولو ضمنياً، أن مجرّد استخدام شخص أو مؤسسة لغة دينية لتبرير مواقف سياسية أو سلوكيات معيّنة لا يجعل تلك المواقف أو السلوكيات «دينية» بطبيعتها، ولا يحدد الدين الذي تنتمي إليه.
*رئيس المعهد العربي الأميركي
في واشنطن