خطابات الرئيس اللبناني جوزيف عون لها طعم ومعنى خاص ومختلف منذ خطاب القَسَم عندما انتُخب بمجلس النواب في يناير 2025 وإلى الأمس بالأمم المتحدة... فما الذي يسترعي الانتباه إذن؟
قال، وبما معناه، إذا سقط النموذج اللبناني في العيش بين جماعتين مختلفتين دينياً، فسيتحوَّل قادة العالم العربي إلى لونٍ واحد من الرؤساء الذين يحكمونه، وهو الإسلام، لذلك بقاء هذا البلد بجوهر وجوده مُرتبط برئيسٍ عربيٍ وحيد من الطائفة المسيحية.
كان المسيحيون العرب، ولفترات طويلة، تحت المجهر، ليس لكونهم فقط من الأقليات، بل لأن المشرق العربي يزهو بهم وبانتمائهم إلى هذه الأرض، فقد تجاوز الحديث عنهم فكرة أنهم شركاء في الوطن، بل كانوا، ولا يزالون، ملح هذه الأرض، بكل تلاوينها ومظاهرها وثقافتها.
وفي كل مرَّة تتعرَّض مجموعة من المسيحيين العرب للاضطهاد أو القتل أو التهجير يبرز التدخل الغربي بصلافة تحت ذريعة حمايتهم والخوف عليهم.
هذا الخوف قرأته في مداخلة الباحث والمؤرخ اللبناني فيكتور سحاب تحت عنوان: «مَنْ المسؤول عن تدمير المجتمعات المسيحية في المشرق؟»، ضمن ندوة بمبادرة من مركز كامبريج لدراسات فلسطين، يتناول فيها محاولة الإجابة عن السؤال أثناء كتابته أطروحة الدكتوراه، وتأكيده أن المسيحيين العرب اضطهدوا على مدى ثلاث حقب من تاريخهم، هي فترة الإمبراطورية الرومانية، والمرحلة الصليبية، وآخرها عصر السيطرة الغربية، وهو الاضطهاد الثالث، وعبر القوى الأوروبية التي تدخلت وأنهت عصر السَّلطنة العثمانية في المنطقة.
يتساءل الباحث فيكتور سحاب: ماذا عن مسيحيي العراق؟ هل حمتهم القوى الغربية التي كانت وراء تنظيم داعش والجماعات المشابهة؟ وماذا عن مسيحيي سورية أثناء الربيع العربي، أو مجتمع المسيحيين الفلسطينيين منذ إنشاء دولة إسرائيل ونكبة 1948.
من وجهة نظر سحاب، فإن أفضل حماية للمجتمع المسيحي العربي هي التناغم مع البيئة العربية والإسلامية.
هذا الاستنتاج قد لا يُرضي الكثيرين، نظراً للفواجع التي أصابت مجموعات من المسيحيين العرب، أحدثها ما جرى للكنائس والأديرة في السودان منذ اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023.
ووفقاً لتحقيق استقصائي أقدمت عليه شبكة أريج للصحافة الاستقصائية نشرته في أغسطس 2025 بعنوان «شظايا على المذبح كنائس السودان في مرمى نيران طرفَي الصراع»، يخلص إلى القول إنه خلال أكثر من عامين، هما عُمر الحرب، استطاع فريق من العاملين بشبكة أريج توثيق الأضرار التي طالت 23 كنيسة وديراً واحداً، تتبع معظم الطوائف المسيحية، قام بتعدادها على الشكل التالي: 14 اقتحاماً، و13 حريقاً، وتدنيس مقابر، واشتباكات دارت داخل الكنائس.
ورغم أن القانون الدولي الإنساني يحمي أماكن العبادة، فإن قوات الدعم السريع استباحت تلك المبادئ، ولم تكترث لها.
لقد اعتدت هذه القوات على كنيسة مار جرجس في أم درمان، وهي بالمناسبة من أقدم الكنائس القبطية في السودان، ومن أيام محمد علي باشا، وظهرت تلك الوقائع على شاشات التلفزيون، وروت كل تفاصيلها، لكن المشهد الأكثر فرحاً كان عندما قرعت الكنائس أجراسها بتحرير ولاية الجزيرة من جماعة الجنجويد والدعم السريع، وكيف أخلى الجيش السوداني راهبات الخرطوم، وأعادهن سالمات.
عمليات الاضطهاد والاعتداءات والتهجير طالت أقليات أخرى في ديار العرب أثناء نشوب النزاعات والحروب، ومنها ما تعرَّض له أخيراً الدروز والأكراد والعلويون وغيرهم، لكن هذا لا يُبرر مسؤولية الأنظمة الحاكمة، وثقافة الجهل، والتعصب الطائفي، التي تعمُّ معظم مجتمعاتنا.