يُنسب للروائي ماركيز قوله إنه إذا مُنع الحديث في السياسة فالأجدر أن يتحول المرء إلى لغة الثقافة. حكمة كهذه ولو التبس أصلها بدت صالحة لزمنها، لكنها تبدو وهماً هذا الوقت في عصر هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي وسيادة مسلسلات «سوب أوبرا» العربية والأجنبية، فقد زاد تسطّح الوعي الثقافي، الذي كان مسطحاً بداية في وطننا العربي، وأصبح القارئ الجاد شخصية نادرة.
فالحديث عن الثقافة والفكر لا مكان له أمام شاشة المسلسلات العربية والأجنبية التي تعرض في معظم القنوات العربية والأجنبية.
أين يجد الكتاب مكانه في عالم عبيط ساذج رخو لا يتحمل إعمال الفكر النقدي؟ فقد تربّى على ثقافة التلقين في المدارس، وخضع لهيمنة السلطة الأبوية، سواء كانت من النظام الحاكم أم من دكتاتورية مجتمعات الطاعة الخاضعة لبأس العادات والتقاليد المحنطة.
الناقد رؤوبين سنير في كتابه البديع عن الشاعر عبدالوهاب البياتي «ركعتان في العشق» يستشهد بفقرة للطرابيشي في ندوة بدمشق عام 1971 «... إن تقدّم لغة الرمز لا يجد تفسيره إلا في أزمة الحرية السياسية، تلك التي تتخذ، من حين لآخر، شكل إرهاب سافر تارة أو مقنّع طوراً، إن لغة الرمز هي لغة من لا يريد أو من لا يجرؤ أو من يعجز عن قول الحقيقة كاملة، وبديهي، أنه ليس هناك من يطالب الأديب العربي بأن يكون شهيداً كما لا يريده أن يصمت».
ويضيف الطرابيشي «... ولكن الرمز له ضريبته الباهظة، كانكماش الجمهور الذي يتوجه إليه الكاتب وتقلّصه عددياً، والحال أن أدب النخبة يغري نفسه بأن الأجيال القادمة هي التي ستفهم، ولكن مثل هذا العزاء ضرب من الرهان، ورقة يانصيب، ونحن نعلم قلة الأوراق الرابحة في اليانصيب...».
مضى أكثر من نصف قرن على نشر رأي الطرابيشي، فهل تغيّرت حال هذا القارئ الذي قد يستوعب لغة الرمز؟ هل زادت نسبة القراء الجادّين، أم أنها كانت ورقة يانصيب خاسرة، واستسلم العقل اليوم لهزيمة الاستهلاك والخوف، ورفع راعي القطيع راية الانتصار؟