في صباح بارد من سبتمبر الجاري، وفي برودة القاعات السياسية التي اعتادت الكلمات الجافّة لا الدموع، وقفت رئيسة وزراء الدنمارك باكية في «نوك»، عاصمة جزيرة غرينلاند الكبيرة في القطب الشمالي، لتقول أمام نساء الإنويت ـ السكان الأصليين للجزيرة ـ: «باسم الدنمارك، أعتذر». اعتذرت عن عقود من سياساتٍ خفيّة استهدفت أرحام النساء قبل عقولهن، اعتذرت عن اللوالب التي زُرعت في أجسام الفتيات دون علمهن، وعن حقن هرمونية وعملية تعقيم أجريت قسراً، عن حرمان آلاف النساء من حق الإنجاب، عن سياسة يمكن أن تُسمى بلا تجميل: تطهير عرقي بوسائل طبية.
هذه ليست حكاية قديمة من قرون غابرة، إنها جريمة وقعت في ستينيات القرن العشرين، حين كانت الدنمارك دولة غربية اسكندنافية تتحدث عن حقوق الإنسان أكثر مما تتنفس الهواء.
وبعد أن حصلت غرينلاند على الحكم الذاتي عام 1979 ثم تسلّمت مسؤولية الصحة بشكل كامل، بدأت تحقيقات مكثفة في أوائل التسعينيات (1991 وما بعدها) لتكشف الأهوال: آلاف وربما عشرات الآلاف من النساء من السكان الأصليين زُرعت في أرحامهن لوالب لمنع الحمل وأُعطين حقناً هرمونية بلا علمهن. كان اكتشافاً مبهراً لجريمة إنسانية طبية ارتُكبت باسم «التنظيم»، لكنها في حقيقتها كانت تطهيراً عرقياً صامتاً.
هذا النوع من الاعتداء على الجسد ليس بدعاً من التاريخ. الولايات المتحدة هجّرت شعوب الشيروكي في «طريق الدموع»، وأجبرت أطفال السكان الأصليين على مدارس تمحو لغتهم وهويتهم، بل وأعطت قبائل من الهنود الحمر بطاطين ملوثة بالأنثراكس في إطار حرب بيولوجية مبكّرة، وارتُكبت إبادة عرقية ذهب ضحيتها نحو 120 مليون إنسان من السكان الأصليين للأميركتين، وفق تقديرات تاريخية.
أستراليا انتزعت آلاف الأطفال من عائلات الأبورجينيين، وفرضت على نسائها التعقيم القسري تحت شعار «حماية المجتمع». وفي قلب أوروبا شهدت البوسنة عمليات إبادة جماعية موثّقة بحق المدنيين. كلها حلقات في سلسلة واحدة: السيطرة على الأرض تبدأ بالسيطرة على الجسد، والاعتذار يأتي متأخراً، بعد أن يكون النسل قد انقطع والذاكرة قد نزفت.
غزة والضفة... جرح معاصر أمام كاميرات العالم
لكن غزة ليست في كتب التاريخ ولا في تقارير لجان الحقيقة، إنها أمام أعيننا. هنا لا نحتاج أرشيفاً ولا تحقيقات مؤجلة: القصف المتكرر على الأحياء السكنية، حصار يحوّل الخبز والدواء إلى حلم بعيد، تهجير للعائلات، وتدمير للمستشفيات والمدارس. تُقدَّم هذه الأفعال في ثوب «الأمن»، لكن الواقع أن المدنيين هم الضحايا، وأن العالم يشاهد، وأن الطفل الغربي يرى الطفل الفلسطيني يُهجَّر على الهواء مباشرة، كما لو كان التاريخ يُبثّ مباشرة لا يُكتب بعد عقود.
الكرامة الإنسانية في الرؤية الإسلامية أصل ثابت: «ولقد كرّمنا بني آدم» (سورة الإسراء - 70). والاعتداء على الجسد، سواء بالقتل أو بحرمانه من حق الإنجاب، هو تعدٍّ على قدسية الخلق. ومن هنا فإن الاعتذار واجب، لكنه لا يُسقط الحق في القصاص، ولا يعفي المجتمع الدولي من مسؤوليته في حماية المستضعفين.
دموع رئيسة وزراء الدنمارك كانت صادقة على الأرجح، لكنّها ليست كافية. الكرامة لا تُستعاد بالدموع ولا بالكلمات وحدها. ما حدث في غرينلاند وما يحدث في غزة يكشفان السؤال ذاته: هل يملك العالم الشجاعة لينتقل من الاعتراف إلى الفعل؟ الاعتذار ليس النهاية، بل البداية، وما لم يتحول إلى إصلاح وعدالة يظل مجرد مشهد عاطفي في مسرح السياسة، فيما يبقى الضحايا يبحثون عن إنصاف حقيقي.
على مدى أربعين أو خمسين سنة مضت، صدّعنا الغرب بخطاب حقوق الإنسان، لكن الوقائع أظهرت شيئاً آخر: القوى الغربية حاربت معظم حركات التحرر في العالم وقمعت القوى الوطنية في بلدانها تحت ذريعة حقوق الإنسان. مكيالان واضحان: مكيال لحقوق الإنسان داخل حدود الغرب، ومكيال آخر خارجها، فإذا جاءت مصالح الغرب مع المطالبة بالحقوق، ارتفعت الأصوات، وإذا تعارضت المصالح مع الحقوق، تغافل الغرب وكأن شيئاً لم يكن. اليوم تنفجر الدلائل الكاشفة أمام أعين البشر في كل مكان، لتفضح أن ما يحكم السياسة الغربية ليس المبادئ، بل المصالح. ومن هنا يصبح السؤال أكبر: هل يجرؤ العالم على كسر هذه الازدواجية، وعلى تحويل الاعتذار من أداة تجميل إلى مسار عدالة حقيقي؟!
«التاريخ لا يغفر بالتصريحات... العدالة وحدها هي التي تداوي الجراح».
* وزير الصحة الأسبق