في خريف عام 1997 كُنّا طلبة في معهد اللغة بولاية Oregon، تلك الولاية الخضراء، وكنا في مدينة طلابية، ندرس طوال الأسبوع، ونأخذ فسحة في العطلة، نستعيد بها أنفاسنا كغيرنا من الطلبة.
وفي ذات يوم، أشار علينا أحد الزملاء الكولومبيين أن نخوض مغامرة فريدة، رحلة جوية بطائرة مروحية نحلّق بها فوق الغابات والأنهار. كنّا ثلاثة طلبة كويتيين، وثلاثة كولومبيين، وبالفعل حجزنا رحلة طائرة مروحية صغيرة من تلك التي تبدو وكأنها دمية عملاقة.
في يوم الرحلة ذهبنا إلى Columbia River، وقال قائد الطائرة الأميركي: إذا أردتم، في منتصف الرحلة، أن نقوم بمحاكاة لحالة الطوارئ، ونُطفئ المحرك لمدة 3 دقائق.. لتشعروا بالنزول الحُر وانزلاق الطائرة للأسفل، فلا بأس.
وأوضح لنا أن هذه التقنية تُستخدم أحياناً لتدريب الطيارين على الهبوط من دون محرّك، لكنها ليست شائعة في الرحلات الترفيهية، والتجربة آمنة تماماً... فهل ترغبون بذلك؟ فقلنا جميعاً: نعم، وأشرنا برؤوسنا بالموافقة، حتى صديقنا ناصر، الذي كان ضعيفاً في اللغة ولم يفهم شيئاً، قال نعم وأومأ برأسه معنا بالموافقة، وهو لا يدري ما الخطب!
أخذنا الاستعدادات ولبسنا الخوذ وربطنا الأحزمة وحلقّنا في السماء فوق هذه الغابات الكثيفة والأنهار الجارية، كان كل شيء يبدو وكأنه لوحة جميلة، كل شيء كنّا نراه صغيرا، حتى هموم الدنيا تبدو أصغر في تلك اللحظات الممتعة للعين والفؤاد... وفجأة، أطفأ الكابتن المحرك ونادى في الميكروفون: Engine off.
وسكت المحرّك... وسكتت معه القلوب، وبدأت الطائرة تنزلق للأسفل. في تلك اللحظات، ظن ناصر أن الوقود قد نفد، وأن الطائرة في حالة سقوط... لأنه لم يفهم إلا Engine off، وظن أننا في طريقنا إلى الهلاك المحتّم والدمار الشامل، فأخذ يصرخ بأعلى صوته: «يا رب سامحني... يا رب سامحني.. يا رب سامحنيييي»، كان يظن أنها اللحظات الأخيرة... لم يكن يدعو فقط، بل كان يعترف بكل شيء، يعترف بكل هفواته ونزواته وعلاقاته، وكل ما خطر في باله.
كان يصرخ ندماً وحسرة، ويقسم أن يصلّي ويتوب توبة خالصة. ونحن غارقون في الضحك، وظل على هذا الحال ولم يستوعب المشهد، إلّا بعدما أعاد الكابتن تشغيل المحرك، واستعادت الطائرة توازنها الطبيعي، هنا فقط عاد النّفس إلى ناصر وعاد الوعي، وانتبه إلى أن وجوهنا التي احمرّت وازرقّت لم نكن تبكي معه، بل كانت محتقنة من الضحك!
هبطنا بهدوء في المدرج، وناصر لا يزال مذهولاً مشتت الذهن... هل يضحك معنا؟ أم يبكي؟ أم يلعن اليوم الذي جاء فيه ليدرس اللغة، أم يبحث عن أقرب مسجد ويلتزم بقسَمه!
عُدنا إلى Oregon بسلام وأمان، ورحلة من رحلات العمر، عشنا لحظات رهيبة، وشاهدنا مناظر جميلة، وسمعنا اعترافات خطيرة... في 3 دقائق!