هذه إطلالة فكرية على كيف يمكن للأحداث والشخصيات أن تعيد رسم الخريطة السياسية والاعترافات الدولية.

قال يحيى السنوار في خطابه الشهير: «سنُجبر الاحتلال على خيارين لا ثالث لهما، إمّا أن يخضع لتطبيق القانون الدولي وتتحقق إقامة دولة فلسطينية، أو أن نضعه في حالة تناقض وتصادم مع الإرادة الدولية كلها، ونعزله عزلاً عنيفاً شديداً ونمنع اندماجه في المنطقة والعالم».

Ad

هذا التصريح يشكّل حدثاً تاريخياً بكل معنى الكلمة، لاسيّما في ظل التطورات الأخيرة على الساحة الدولية، إذ شهدنا اعتراف بريطانيا - الدولة التي أسّست لقيام إسرائيل عبر وعد بلفور ورعتها طوال عقود - بالدولة الفلسطينية، وهو اعتراف رمزي بالغ الدلالة. وتلاها في ذلك فرنسا، ثم كندا وأستراليا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى، في مشهد لم يكن متوقعاً، إلّا أن الولايات المتحدة وألمانيا بقيتا على موقفهما التقليدي، رغم الارتدادات الواسعة في الرأي العام فيها. هذه التحوّلات الدولية تُعطي لخطاب السنوار بُعداً إضافياً، إذ تتزامن مع تآكل السردية الإسرائيلية في المحافل الدولية وصعود خطاب الحقوق الفلسطينية إلى واجهة الرأي العام الغربي.

إن ما قاله السنوار ليس مجرد بيان سياسي عابر، بل هو صياغة لمعادلة استراتيجية حادة، معادلة تضع الاحتلال أمام خيارين واضحين: إما الامتثال للقانون الدولي وإقامة الدولة الفلسطينية، أو مواجهة عزلة دولية متصاعدة حتى تصل إلى حالة من الاختناق الدبلوماسي والسياسي.

من هنا تتبدى أهمية قراءة هذا الخطاب في سياق التحولات الفلسطينية والإقليمية والدولية الراهنة، حيث أصبح القانون الدولي وسلاح العزلة والضغط الشعبي أدوات موازية للميدان. هذه الاستراتيجية تذكّر بنجاح حركات التحرر السابقة في جنوب إفريقيا وناميبيا حين تم الجمع بين النضال على الأرض وحملات المقاطعة الدولية التي قادت في النهاية إلى إسقاط نظام الفصل العنصري.

لكن السنوار لا يقف عند هذا الحد، بل إن دلالات مشهده الأخير تضيف إلى الخطاب بُعداً رمزياً عميقاً، فالرجل لم يُلقِ تصريحه هذا في ندوة مغلقة أو مؤتمر إعلامي بارد، بل أطلقه وهو في قلب المواجهة، ثم جسّده باستشهاده وهو يلوّح بعصاه جريحاً ينزف أمام مرأى العالم كله، وكأن جسده يخطّ البيان الأخير بالدم، لا بالحبر. هذه الصورة أعطت خطابه مصداقية عملية تتجاوز الكلمات إلى الفعل، ورفعت منسوب التعاطف الشعبي والإعلامي في العالم بشكل غير مسبوق، ورفعت قدره في السماء كما كان يتمنى.

وهنا يبرز الفارق الكبير بين بندقية السنوار وغصن الزيتون الذي رفعه ياسر عرفات في الأمم المتحدة عام 1974 حين قال عبارته الشهيرة: «جئتكم بغصن الزيتون في يدي وببندقية الثائر في يدي الأخرى، فلا تُسقطوا غصن الزيتون من يدي».

يومها بدا أن عرفات يحاول الجمع بين السلاح والسياسة، لكنّه انحرف عملياً طوال العقود التالية إلى مسار التسويات والاتفاقيات، دون أن يحصّل ثمار الدولة الموعودة، بل رأينا ما خلّفته تلك المرحلة من انقسام وضياع للقضية على مدار أربعة عقود.

السنوار، في المقابل، أطلق تصريحه بلغة تحدٍّ واضحة، ووفّى بوعده وهو في ساحة المواجهة. لم يختبئ في كهف أو في نفق، بل قدّم نفسه كقائد مقاتل يواجه مصيره علناً أمام شاشات العالم أجمع، ففاق غيفارا، أيقونة التحرر بالعالم في عصره.

في مشهده الأخير ومشاهد معاناة أهل غزة معه، بدا كأنه يجسّد قوله تعالى: «إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون» (سورة النساء - 104)، فأهل غزة يرجون من الله الشهادة وكرامة الصمود، بينما لا يرجو خصومهم إلا مصالح دنيوية مؤقتة، وهكذا تداخل القول بالفعل، وأصبح التصريح ليس مجرد خطاب، بل نصاً يُنقش بالدم في ذاكرة الناس.

ولا يمكن في هذا السياق إغفال التضحيات الجسيمة التي قدّمها أهل غزة. إنهم يدفعون ضريبة من ضرائب الحرية، كما دفعت الجزائر وفيتنام وغيرها من الشعوب المستعمَرة - مسلمة وغير مسلمة - ثمناً باهظاً من أجل التحرر. وقد قال الشاعر:

وللحرية الحمراء بابٌ

بكل يدٍ مضرجةٍ يُدَقّ

بيتٌ يلخّص ملحمة غزة اليوم، فثمن الحرية دماء وتضحيات، لكنه في الوقت نفسه مصدر شرعية أخلاقية للقضية في أعين الشعوب.

وإذا كان خطاب السنوار يرسم استراتيجية مواجهة وعزلة، فإن البيئة الإقليمية بدأت تتحرك في اتجاه موازٍ. فالدول الإسلامية والعربية التي كانت تراهن على تفاهمات منفردة مع الاحتلال أو مع القوى الكبرى، بدأت - ولو ببطء - تلتفت إلى بعضها وتبني شراكات عسكرية وأمنية واقتصادية فيما بينها بعيداً عن الضغط الأميركي المباشر. الشراكة العسكرية بين السعودية وباكستان، والتقارُب التركي - المصري، والاتجاه داخل مجلس التعاون الخليجي لتعزيز التعاون البيني، كلها أمثلة على هذا التوجه. هذا المناخ يوفّر، إذا أُحسن استثماره، بيئة سياسية جديدة يمكن أن تدعم الموقف الفلسطيني وتزيد من عزلة الاحتلال، ويعيد تشكيل توازن القوى في المنطقة بما يخدم قضاياها المركزية.

هذا المشهد يعيدنا أيضاً إلى الأبعاد الروحية للصمود. وهنا تتردد في الذاكرة أبيات عبدالله البردُّوني الشهيرة في قصيدة «أخي أنت حر»:

أخي أنت حرّ وراء السدود

أخي أنت حرّ بتلك القيود

إذا كنت بالله مستعصماً

فماذا يضيرك كيد العبيد؟

أخي هل ترى قد سئمت الكفاح

وألقيت عن كاهليك السلاح

فمن للضحايا يواسي الجراح

ويرفع راياتنا من جديد؟

إنها كلمات تلتقي مع روح خطاب السنوار ومعاناة غزة، فالتاريخ يُظهر أن النصر لم يكن يوماً ثمرة الراحة أو التسويات الرخوة، بل ثمرة الصبر والتضحيات والتمسك بالحق حتى النهاية.

في المحصلة، تطرح لحظة استشهاد السنوار سؤالاً على كل من تابع المشهد: هل صدق السنوار ما عاهد الله عليه حقاً؟ وهل سيثمر هذا النموذج الجديد - الذي يدمج بين وضوح الخطاب السياسي ورمزية التضحية القصوى - في تغيير معادلات المنطقة بعد عقود من خطاب التسويات العقيم؟ ذلك سؤال مفتوح للمستقبل، لكنه بلا شك سيبقى محفوراً في ذاكرة الشعوب ودوائر القرار على حدٍّ سواء.

*وزير الصحة الأسبق