يشكّل الذكاء الاصطناعي قوة تحويلية في الاقتصاد العالمي، حيث تشير التقديرات إلى تأثيره الهائل على أسواق العمل والنمو الاقتصادي.
فوفقاً لصندوق النقد الدولي، يتوقع أن تتأثر 40 بالمئة من الوظائف حول العالم بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وفيما يتعلق بالأثر الاقتصادي، يتوقع بنك غولدمان ساكس أن يضيف الذكاء الاصطناعي 7 تريليونات دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بزيادة 7 بالمئة خلال العقد القادم، وفي المقابل تذهب تقديرات ماكينزي إلى أبعد من ذلك، مشيرة إلى نمو سنوي يتراوح بين 17.1 و25.6 تريليون دولار. ورغم ضخامة هذه الأرقام، فإنها تُعدّ الأكثر تحفّظاً عن آثار الذكاء الاصطناعي اقتصادياً.
ولفهم الأبعاد الحقيقية لهذه التحولات، يتعمق الاقتصاديون والباحثون في دراسة هذه الظاهرة، ومن أبرزهم دارون عاصم أوغلو، الحائز جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2024.
ورغم كونه من الاقتصاديين الأكثر تحفّظاً بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي، فإن تحليلاته تكشف عن تحولات جوهرية قادمة، فقد درس أوغلو التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي التوليدي على الأجور وعدم المساواة، وخلص من مراجعته الشاملة للأبحاث إلى أن حوالي 20 بالمئة من المهام في سوق العمل الأميركي قابلة للاستبدال أو التعزيز بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وحتى هذه النسبة المتحفظة تؤكد عمق التحول المرتقب في أسواق العمل العالمية.
ويضع هذا التحليل الذكاء الاصطناعي في سياق تاريخي أوسع، حيث يتقاطع مع رؤية أغيون وجونز في ورقتهما البحثية الصادرة عن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، والتي تصنّف الذكاء الاصطناعي كأحدث موجة من موجات الأتمتة الكبرى - بعد الكهرباء ومحركات الاحتراق الداخلي وأشباه الموصلات - مؤكدين آثاره العميقة المتوقعة على النمو الاقتصادي وإعادة توزيع الدخل.
لذا، فإننا الآن أمام تحوّل جذري اقتصادي سيغيّر طبيعة العمل وطبيعة هيكل الاقتصاد بتأثير بالغ يعادل وربما يتعدّى تأثير الثورة الصناعية على الاقتصادات الدولية.
وهذه ليست مجرد تنبؤات نظرية، بل إن آثار الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد العالمي تتجلّى بوضوح في واقعنا المعاصر.
ولعل أبرز هذه الآثار ما نشهده في سوق العمل الأميركي، حيث انخفضت فرص توظيف الخريجين الجدد (الفئة العمرية 22 - 25 سنة) بنسبة 13 بالمئة عام 2022، نتيجة مباشرة للأتمتة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فقد سجّلت منصات التوظيف انخفاضاً غير مسبوق بلغ 35 بالمئة في الوظائف المتاحة للمبتدئين، مقارنة بعام 2023، وذلك بعد تبنّي المؤسسات الكبرى أدوات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع.
هذه التحولات في سوق العمل ليست مجرد أرقام عابرة، بل هي المؤشرات الأولية لثورة اقتصادية شاملة ستعيد تشكيل طبيعة العمل، ونوعية الوظائف المطلوبة، والهيكل الاقتصادي برمّته - مما يفرض على الحكومات ضرورة ملحّة لصياغة سياسات اقتصادية استباقية تؤهل مجتمعاتها لمواجهة هذه التحولات الجذرية والاستفادة منها.
وإلى جانب هذا التحول الاقتصادي الذي يُحدثه الذكاء الاصطناعي في طبيعة العمل، نجد أنفسنا أيضاً أمام لحظة تاريخية تتحول فيها البيانات إلى أحد أهم الموارد الاستراتيجية للدول، يطلق البعض عليها «النفط الجديد»، للدلالة على الفرص الهائلة التي توفرها في تحسين الكفاءة وتطوير حلول الذكاء الاصطناعي والخدمات العامة.
وعلاوة على ذلك، يمكن جمع البيانات ومعالجتها ودمجها في حلول عالية القيمة أن يحقق فوائد ملموسة على المديين القصير والبعيد.
وفي ظل هذا النقاش المعمق حول الذكاء الاصطناعي، يصبح من المهم أولاً تعريفه بدقة لفهم طبيعة التحوّل الذي تواجهه.
فالذكاء الاصطناعي هو فرع من علوم الحاسوب يهدف إلى إنشاء أنظمة قادرة على أداء مهام تتطلب عادة ذكاء بشرياً، بما في ذلك التعلم والتفكير والفهم والتفاعل مع البيئة. ويعتمد على تقنيات، مثل التعلُّم الآلي والشبكات العصبية ومعالجة اللغة الطبيعية لتطوير أنظمة تتعلم من البيانات وتحسين أدائها باستمرار.
لكن ما يميّز الذكاء الاصطناعي عن الموجات التكنولوجية السابقة هو قدرته على أداء مهام كانت حكراً على البشر، فهو اليوم قادر على إجراء أبحاث أكاديمية معقّدة بمستوى حملة الدكتوراه، وإنتاج أفلام متكاملة تضاهي إنتاجات «هوليوود»، وبرمجة تطبيقات ومواقع إلكترونية متطورة، وإجراء تحليلات اقتصادية معمّقة.
لقد تحولت التكنولوجيا من مجرد أدوات نستخدمها إلى «عاملين افتراضيين» يعملون على مدار الساعة بتكلفة أقل من الموظفين البشريين ينفذون المهام المطلوبة بمجرد وصف العمل المطلوب.
هذا التحول الجذري يغيّر متطلبات الشركات من موظفيها وطبيعة أعمالهم، ويخلق فرصاً اقتصادية جديدة كلياً تذكّرنا بما حدث خلال الثورة الصناعية التي قلّصت الحاجة إلى العمال الزراعيين والحرفيين اليدويين، واستبدلتهم بقطاعات صناعية وهندسية جديدة وخدمات حضرية وشركات متطورة لم يكن لها وجود من قبل.
وكما حدث حينها، انتشرت البطالة في بدايات الثورة الصناعية، بينما أعادت الاقتصادات هيكلة نفسها وفق متطلبات المصانع والأدوات الجديدة، قبل أن تؤدي الحكومات دوراً محورياً في ضمان استفادة دولها من الثورة الصناعية، عبر عدد من السياسات وبناء البنى التحتية الداعمة.
ففي بريطانيا، حمت الحكومة الملكية الخاصة وشجعت الأسواق الحرة، ووسعت شبكات التجارة الاستعمارية.
أما في الولايات المتحدة وألمانيا، فقد استثمرت الحكومات في السكك الحديدية والقنوات والأنظمة المصرفية، واستخدمت الرسوم الجمركية لحماية الصناعات المحلية. وفي فرنسا، دعمت الدولة الائتمان الصناعي والبنية التحتية، رغم عدم الاستقرار السياسي، بينما قادت حكومة ميجي في اليابان عملية التحديث مباشرة، من خلال استيراد التكنولوجيا وإصلاح التعليم وبناء المصانع، وبشكل عام، كان التدخل الحكومي - سواء عبر الأطر القانونية أو البنى التحتية أو التخطيط الاستراتيجي - ضرورياً لتحويل الإنجازات الصناعية إلى نجاح وطني.
وكما حدث في تلك الحقبة المحورية اقتصادياً، نجد الحكومات حول العالم اليوم على مفترق طرق حاسم، فهي إمّا أن تترك الأمور على ما هي عليه، مما يجعلها أكثر عرضة للآثار السلبية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي، وإما أن تكون سباقة في رسم سياسات تجعل منها عاصمة من عواصم هذا الاقتصاد الجديد القائم على الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السباق العالمي، تبرز الولايات المتحدة كنموذج رائد بإطلاقها استراتيجية متكاملة بعنوان «الفوز بسباق الذكاء الاصطناعي... خطة الولايات المتحدة للعمل بشأن الذكاء الاصطناعي»، والتي تضمّنت 90 تشريعاً داعماً، بإشراف مجلس أعلى في البيت الأبيض متخصص في الذكاء الاصطناعي، إلى جانب استثمارات ضخمة في البحوث والبنية التحتية وتدريب القوى العاملة لمتطلبات الاقتصاد الجديد.
كما فرض البيت الأبيض تفويضاً على جميع المراحل الدراسية من رياض الأطفال إلى الثانوية العامة لتعليم الذكاء الاصطناعي، بهدف إعداد شباب أميركا لاقتصاد قائم على هذه التقنية. وقد تم إنشاء فريق عمل من البيت الأبيض معنيّ بتعليم الذكاء الاصطناعي لتعزيز الثقافة الرقمية وتدريب المعلمين ودمج هذه التقنيات في التعليم المبكر.
وفي الوقت ذاته، تتحرك الصين بخُطى حثيثة، حيث أسست صندوق الاستثمار الوطني لصناعة الذكاء الاصطناعي، وتسعى لتحقيق التفوق بحلول عام 2030 من خلال مراكز الابتكار المشتركة وخطة استراتيجية شاملة تتضمن التسويق واستقطاب المواهب ودمج الذكاء الاصطناعي في القطاعات المختلفة.
بينما اتخذت المملكة المتحدة مساراً مميزاً بإنشاء معهد سلامة الذكاء الاصطناعي وإطلاق تأشيرة الفرد عالي الإمكانات HP Visa لاستقطاب النخب الأكاديمية، إضافة إلى الاستثمار المباشر في المراكز البحثية كمركز آلان تورينج.
أما على صعيد الدول الأخرى، فقد أطلقت كندا هذا العام استراتيجية الحوسبة السيادية وصندوق إتاحة الحوسبة مع استثمارات لتوسيع البنية التحتية وتعزيز البحث، في حين خصصت فرنسا 109 مليارات يورو لاستراتيجيتها التي تركّز على البحث والتطوير والتعليم ودعم الشركات الناشئة التقنية.
كما ضخت الهند استثمارات وطنية ضخمة بقيمة 1.25 مليار دولار في الأبحاث والبنية التحتية والسياسات، مع تركيز على تنمية قدرات الحوسبة وتعميم الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات.
وعلى الصعيد الإقليمي، أطلقت المملكة العربية السعودية مبادرة «مشروع التفوق» بقيمة 100 مليار دولار، لتعزيز مكانتها في الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات الحاسوبية.
في ضوء انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للكويت تقدر بين 2.6 و3.9 بالمئة عام 2024 بسبب قيود إنتاج أوبكه، تبرز الحاجة الملحّة لصياغة استراتيجية شاملة للتنويع الاقتصادي ينسجم بما يحدث مع هذه الثورة التقنية غير المسبوقة في مجال الذكاء الاصطناعي، مما يفتح آفاقاً جديدة للنمو الاقتصادي المستدام.
فقد تؤكد الدراسات المتخصصة على الفرص الواعدة للذكاء الاصطناعي في تحقيق التنويع الاقتصادي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فوفق تقديرات PWC، يمكن أن تضيف تقنيات الذكاء الاصطناعي نحو 320 مليار دولار الاقتصادات المنطقة بطول عام 2030، لا سيما عبر تحسين الإنتاجية وخفض تكاليف العمليات وتحرير سلاسل القيمة من الاختناقات.
هذه الأرقام تعكس إمكانات ملموسة في تحويل مراكز الثقل من القطاعات التقليدية إلى قطاعات كثيفة المعرفة والابتكار، بما يدعم نمو قطاعات غير نفطية، مثل الخدمات المالية والصحة والتعليم واللوجستيات والسياحة الذكية.
تتجلى أمام الكويت اليوم فرصة ذهبية لترسيخ مكانتها كعاصمة للشركات التكنولوجية في المنطقة وحاضنة رائدة للشركات الناشئة والبحث العلمي.
فكما نجحت دبي في ترسيخ مكانتها كعاصمة سياحية إقليمية، وكما تسعى الرياض حالياً لتصبح العاصمة الاقتصادية التي تستقطب شركات الاستثمار وتحتضن المؤسسات المالية الكبرى، فإن الفرصة سانحة أمامنا لاستثمار التحولات الجارية في عالم التكنولوجيا وتحويل الكويت إلى «وادي السيليكون» الشرق الأوسط.
والحقيقة أن الكويت تمتلك بالفعل جميع المقومات الأساسية اللازمة لبناء هذه العاصمة التكنولوجية.
فمن جهة، نمتلك رأس المال الوفير المطلوب لتأسيس وتطوير هذا القطاع الحيوي، ومن جهة أخرى، تتمتع برأسمال بشري متميز يتمثل في النسب العالية من المهندسين والكفاءات التقنية المؤهلة في سوق العمل وما يعزز هذه المقومات هو الروح الريادية المتجذرة في المجتمع الكويتي، والتي تجسّدت بوضوح في قصص النجاح المتعددة لمشاريع ريادية كويتية بحتة - مثل طلبات وكاريدج وبوتيكات وفانورد - التي ازدهرت بجهود ذاتية رغم محدودية الدعم الحكومي المباشر.
وبالنظر إلى المستقبل، فإن بناء اقتصاد متكامل قائم على الذكاء الاصطناعي سيمكن الكويت من تبوؤ موقع الريادة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، محققة الاستفادة القصوى من الثورة التقنية الجارية، ولكن تحقيق هذه الرؤية الطموحة يتطلب إطلاق إصلاحات جذرية وشاملة على المستويات الاقتصادية والأكاديمية والاستثمارية، بما يضمن أن تكون الكويت في طليعة المستفيدين من التحول الاقتصادي العالمي الذي نشهده اليوم.
* باحث اقتصادي