في طفولتي كنت ذات شعر (كاريه فرنسي مسبسب)، وهو موضة جيل الطيبين وقتها، قبل أن أشاهد الأوبريتات الوطنية وأنا في العاشرة من عمري وأطلب من أمي أني أريد أن (ألفح) بشعري مثلهن ليكون جوابها «طوليه لا تقصيه»، ومن يومها أصبح عزيزاً ولم يمسسه مقص، حتى أذكر أنه في أحد الأيام أخطأت مصففة الشعر في قصه قليلاً، وبكيت يومها لتتدخل أختي (بالفزعة) وتدخل في جدال معها.
لم أتخيل أن الحياة ستختبرك فيما تحب، حين تعقد النية، لأنها ستتحداك، فإما تثبت لها أنك صادق فيما تريد أو لا، ففي رحلة التطوع في أحد الأيام أخذتني صديقة إلى مركز أطفال للسرطان، لمساعدتها في تقديم الهدايا لهم. اعتقدت أن الأمر سيقف إلى هذا الحد، قبل أن تستوقفني طفلة وهي تنظر إلى شعري المنسدل كعادتي، ابتسمت لها وقدمت لها الهدية، ولكنها ظلت تنظر إليه، نظراتها اخترقت قلبي، أدركت أنني أمام طفلة أنهك جسدها الصغير جرعات الكيماوي، لم تنطق بكلمة، نظرة اخترقت فؤادي، حملت كل الأسئلة التي لا يستطيع جسدها الصغير أن ينطق بها، في تلك اللحظة شعرت بعجزي الكامل، لم يكن بيدي دواء، ولا عصا سحرية تخفف آلامها، ولا حتى كلمة كافية لتمحو خوفها، كل ما كنت أملكه هو شعري.
لحظات من التردد، ولكني طلبت مقص وقصصته أمامها قلت لها (الحين هذا حقك)، كمية الفرحة والسعادة لها كانت لا توصف، ولا يطاوعني قلبي في أن أسترسل في المواقف التالية لنا، وكيف عبرت عن فرحتها وكيف ضحكنا معاً.
وكأن هذا الفعل الصغير، الذي قد يبدو تافهاً للبعض، كان في نظرها أغلى من كل شيء، لم يكن مجرد شعر، بل رسالة غير منطوقة، أنك لستِ وحدك، هناك من يشاركك الطريق، ولو بخصلة.
اكتب عنها لأنها رحلت منذ فترة قصيرة، وأكتب علّ الوجع يخف، بعد أن علمتني دروساً كبيرة، فهمت أن العطاء لا يُقاس بالنتيجة، ما نقدمه قد لا يغيّر مصيراً، لكنه يترك أثراً، والأثر أحياناً هو كل ما نملك أن نفعله.
اليوم، وأنا أكتب عنها، أتذكر أن القوة لم تكن في أن أحتفظ بشعري، بل في أن أتخلى عنه حين كانت هي تحتاجه أكثر، وأفكركم من الأشياء نتمسك بها بقوة، بينما قيمتها الحقيقية تكمن في أن نمنحها للآخرين.
لقد علّمتني تلك الطفلة أن العطاء ليس ترفاً ولا رفاهية، بل إنسانية خالصة، ولا يشترط أن يكون العطاء كبيراً ليحدث فرقاً وليس فقط مالا قد يكون كلمة طيبة، جبر خاطر، زكاة علم، تعامل بأخلاق، وقتك، جهدك البسيط، كلها أحد أشكال العطاء.
رحيلها كان فاجعة، لكنها تركت وراءها درساً خالداً، أن الحياة أقصر بكثير من أن نؤجل عطاءنا، وأن العطاء الحقيقي يُقاس بقدرتنا على المشاركة لا بالاحتفاظ.
رحلتِ يا صغيرة، لكنكِ علمتيني دروساً كبيرة، علمتيني أن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يمنح، علمتيني أن القوة الحقيقية ليست في أن نتمسك بما نحب، بل أن نتخلى عنه حين يحتاجه الآخر، علمتيني أن الأمل لا يحتاج إلى عمر طويل ليولد، بل إلى لحظة صادقة، نظرة صامتة، وخصلة شعر تتحول إلى رسالة حياة.
ستبقين في داخلي صوتاً خافتاً يذكرني دائماً أن أبسط ما نمنح قد يساوي حياة كاملة في قلب إنسان آخر.
* ينشر بالتزامن مع صحيفة الشرق القطرية