في محادثة عابرة من أحد الأعزاء، وهو الصديق محمد المزيني (حفظه الله)، وهو مَن نحسبه من الثقات أصحاب العلم والمعرفة، وفي يومي الأول من إجازتي السنوية، زرع بذرة هذا المقال في رأسي بطريقة عجيبة.

طلب منّي صاحبي أن أنظر في موضوع استدامة نظام التأمين، ومن زاوية الاستدامة تحديداً، ولكن ليس في زمننا هذا البتة، ولا حتى في عصرنا الحالي، بل في زمن النبي يوسف، عليه السلام.

Ad

حقيقة لم أكن على دراية بأن الموضوع كان متشعبا والنقاش فيه قديم، بل طرحت فيه دراسات عدة وتقارير تبيّن جدية المسألة، وكيف تم التعامل معها منذ الأزل.

قصة سيدنا يوسف عليه السلام معروفة بكل تفاصيلها، وكذلك السورة القرآنية تبيّن تفاصيل عدة لهذا الموضوع، ولكن ما الذي طرحه سيدنا يوسف ليجعل موضوع الاستدامة محورا مهما للتناول؟!

من بعد الاطلاع أكثر، وجدت أن منظومة التأمين التي طرحها سيدنا يوسف في مصر منذ آلاف السنين هي في الواقع جزء من نظام إداري متكامل لإدارة الأزمات (البيئية) بمفهوم هذا الزمن الذي نعيش. اختزن المؤنة لسبع سنوات ووهبها لتأمين وتكافل اجتماعي لسبع أخريات، فهو أمر يعتبر من أوائل مبادرات التأمين الاجتماعي في التاريخ بشكل عام.

وهنا نقف مع تحليل المسألة بشكل فني ومن زاوية شخصية مختلفة، إذ أقدم عزيز مصر، سيدنا يوسف عليه السلام، بالعمل على تطبيق وإسقاط مفهوم الاستدامة بشكلها العلمي الصحيح، وذلك طبعا من خلال إنارة بصيرته ووحي إلهي منزّل لا يمكن لأحد أن ينكره بتاتاً.

للاستدامة مفاهيم وتعاريف عدة، لعل أبرزها وأقربها إليّ هو المتبع في تقارير الأمم المتحدة الفنية، والمرتكز باختصار على حفظ موارد الغد والأجيال القادمة دون المساس بمصالح الحاضر كذلك.

طبّق سيدنا يوسف، عليه السلام، هذا بحذافيره، بل وأزيد في هذا أمرا آخر، ألا وهو اتباعه لمنهجية هندسية دقيقة جدا جدا في إسقاط المسألة على الركائز الأساسية (الثلاث) للاستدامة على الحالة العامة في مصر آنذاك. الركيزة الأولى والمعنية بالجانب الاجتماعي تتلخص على النحو الآتي: عرف أن سيدنا يوسف هو عزيز مصر وله وزنه حين اتخذ تلك القرارات، وعرف أنه نبي من الأنبياء كذلك، ومع هذا حافظ على الجانب الاجتماعي بكل عدالة بين الناس.

أمر العزيز باختزان المؤنة وطبّق هذا بشفافية بين الناس، ولسبب أنه أتته رؤية إلهية تعطيه تلك النبوة. عرف السبب وعرف سبب العمل به، وتوافقت الناس على هذا كله وتحقق الأمن والسلم الاجتماعي بذلك.

من جهة أخرى، قام النبي يوسف، عليه السلام، بتطبيق ركيزة مهمة، وهي استدامة الموارد الايكولوجية (البيئية)، فلم يسرف في التخزين ولا في الهدر المتصل مع البيئة ومواردها، فقد كان طلبه في تخزين القمح (الحبوب) بأمر رباني موزون. أما اقتصاديا، فقد حقق النجاح الأكبر حين كانت مصر هي الوحيدة من بين الممالك التي تعيش في رغد حين كانت غيرها تعاني ضنك العيش.

ما وصفته في هذا المقال ليس إلا جانبا بسيطا من تحليل المسالة نستخلص منه أن للتاريخ جوانب متصلة مع الحاضر والمستقبل بشكل نحن لا نعيه في غالب الأحيان. والله كريم وهو المستعان.

على الهامش: أعزائي القراء الكرام، سأتوقف عن الكتابة المقالية ردحا من الزمن بهدف تجديد النشاط الثقافي والحيوية في الأدب، وعليه أنتهز الفرصة في شكر جريدة الجريدة التي دعمتني طوال الفترات السابقة، وتركت لي القلوب والأبواب مفتوحة للعودة في قادم الأيام من بعد التقاط الأنفاس.