كتب الاستشاري المشهود له في علاج الأمراض المرتبطة بالقلب والشرايين، الصديق الطبيب أحمد علاء الدين، على صفحته الخاصة في منصة فيسبوك منشوراً - لافتاً بذكائه ومعبّراً بمضمونه - بعنوان «السكر... عبودية جديدة بثياب بيضاء».

لم يفاجئني الصديق أحمد فيما نشر، ذلك لأننا اعتدنا مقارباته العميقة والمختلفة، لكن هذا المنشور بالذات جعلني أتوقف مليًّا عند مظاهر العبودية التي ما زلنا نعيش كثيرًا من أشكالها المختلفة في عصرنا الحالي، على المستويات الفردية والمجتمعية كافة، وفي مختلف الميادين السياسية والتجارية والاجتماعية، محليًا ودوليًا.

Ad

لفت د. أحمد - بتصرُّف - إلى أن السكّر، الذي كان يومًا أداة للهيمنة والاستغلال في مزارع قصب السكر بجزر الكاريبي وأميركا اللاتينية، لم يزل اليوم وجهاً آخر للعبودية، إذ تحوّل من محصول يُسقى بعرق العبيد إلى مادة تُسيطر على أجسادنا وعاداتنا الغذائية، مسبّبة السّمنة والسكّري وأمراض القلب، ومستترةً خلف حملات تسويقية وأبحاث علمية مموَّلة لمصلحة شركات الغذاء والدواء.

فمن استخدامه كمصدر للطاقة الرخيصة للعمال في بريطانيا الصناعية إلى إدماننا المعاصر على الحلويات والمشروبات المحلّاة، يظهر السكّر كوجه «حلو» للعبودية الحديثة، حيث تُنتج الشركات المرض وتسوّق العلاج، ويبقى الإنسان أسير دائرة الاستهلاك بين الحلاوة والمرارة.

الواقع أنه، إلى جانب السيطرة الغذائية التي لفت إليها الطبيب المبدع والمختص، تتجلّى العبودية المعاصرة في أشكال عديدة، من أبرزها ما يمكن أن نسمّيه «الرق الرقمي»، حيث تصنع الشركات الكبرى منصات إلكترونية تجعل المستخدمين أسرى بياناتهم وسلوكياتهم. تُجمع المعلومات الشخصية، وتُحلّل أنماط الاستهلاك والتفضيلات، ليصبح الإنسان في مواجهة دائمة مع خوارزميات تستدرجه لاتخاذ قرارات مالية واستهلاكية وحتى سياسية، غالبًا من دون وعي حقيقي.

هذا النوع من العبودية، وإن بدا غير محسوس، فهو يتحكّم في اختيارات الأفراد، ويحدّ من حريتهم في الفضاء الرقمي، مبدّدًا شعورهم بالاستقلالية الشخصية.

من جانب آخر، تظهر العبودية الاقتصادية والاجتماعية في تفاوت الدخول وظروف العمل القاسية، حتى في الدول المتقدمة.

آلاف العمال في مصانع الملابس والإلكترونيات حول العالم ما زالوا يُجبَرون على العمل لساعات طويلة مقابل أجور زهيدة، في بيئات تُشبه المعتقلات، مع تقييد الحقوق النقابية والحماية الاجتماعية. وهنا، لا يكون الاستغلال عبر السوط أو السلاسل، بل عبر الإكراه الاقتصادي والحاجة الملحّة للعيش.

وفي سياق السياسة الدولية المعاصرة، تتجلّى أشكال العبودية الحديثة من خلال الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية للدول الكبرى على الدول الأضعف، وعلى ما يُسمّى «المجتمع الدولي». إذ غالبًا ما تفرض الدول القوية إرادتها عبر أساليب متعددة، تشمل الضغط الاقتصادي، والاتفاقيات التجارية غير المتكافئة، وفرض شروط القروض والمساعدات المالية الدولية، حيث تصبح السياسات الداخلية للدول الصغيرة رهينة لمصالح القوى العظمى. كما تمتد الهيمنة إلى الفضاء العسكري والدبلوماسي، من خلال قواعد عسكرية وتحالفات استراتيجية، أو استخدام القوة الناعمة عبر الإعلام والثقافة والتعليم، مما يُجبر بعض الدول على تبنّي سياسات تتعارض مع مصالح شعوبها.

خلاصة القول أن العبودية المعاصرة لم تعد محصورة في عنف الجَلْد وقَيد المعصم، بل اتخذت وجوهًا متعددة، تعتقل الإرادة وتتخفّى في حلاوة السكر.

إلا أن الحرية الحقيقية لا تعني مجرد غياب السوط، بل القدرة على التحكّم في خياراتنا الشخصية والاجتماعية، ومقاومة القوى التي تسعى لتحويل الإنسان إلى أداة لتحقيق مصالح الآخرين.

فهم هذه الأبعاد يضعنا أمام مسؤولية أخلاقية ومجتمعية لإعادة تعريف الحرية وحماية الإنسان من أشكال العبودية الحديثة، حتى لا نكتشف فجأة أنّ ما نراه «حياة وردية» ما هو إلا عبودية مقنّعة تأسر أيامنا وأجسامنا وأذهاننا.

* كاتب ومستشار قانوني