في مؤتمر صحافي أثار موجة من الجدل، قال بنيامين النتن ياهو ساخراً: «هل تملك هاتف نقال؟ إذن أنت تحمل قطعة من إسرائيل في جيبك». وسأل الصحافيين إن كان أحدهم يحمل «بيجر». كلماتٌ بدت مزحة، لكنها وقعت كحقيقة مُرَّة في ظل عالمٍ تتساقط فيه الأخبار تباعاً عن اختراق الخصوصية، سواء من الحكومات، أو من عمالقة التكنولوجيا. وبينما قد يبدو كلام النتن ياهو مجرَّد تهكمٍّ سياسي، إلا أن أربعة تقارير صحافية بارزة خلال السنوات الأخيرة أظهرت أن الواقع ليس بعيداً عمَّا لمَّح إليه.
تصريحات النتن ياهو تحمل رسائل مُبطنة: أيدي إسرائيل طويلة، والتكنولوجيا إحدى أدواتها. ليس جديداً أن شركات أمنية إسرائيلية، مثل NSO، كانت وراء برنامج بيغاسوس الشهير، لكن الجديد أن خطاباً سياسياً علنياً يلمِّح إلى أن الهواتف ليست مجرَّد أجهزة، بل نوافذ مشرعة على خصوصياتنا.
في عام 2019 كشفت The Guardian عن أن متعاقدين مع «أبل» كانوا يستمعون إلى تسجيلات Siri، بعضها شخصي وحميم، من دون علم المستخدمين. اضطرت الشركة لوقف البرنامج مؤقتاً، وإتاحة خيار الانسحاب لاحقاً. لكن الحادثة أكدت أنه حتى الشركات التي تتفاخر بالخصوصية ليست بمنأى عن الانزلاق في دائرة المراقبة.
وفي تقرير لـ Associated Press وفيديو نشرته Global News، تبيَّن أن «غوغل» تستمر في تعقُّب المستخدمين، حتى لو أوقفوا خدمات الموقع. باستخدام بيانات الشبكات الخلوية والواي فاي.
وفي كوريا الجنوبية، فرضت السُّلطات غرامة تقارب 16 مليون دولار على Meta (فيسبوك)، بسبب جمع بيانات حساسة لمليون مستخدم– تشمل التوجهات السياسية، والدينية، والميول الجنسية – ومشاركتها مع آلاف المعلنين من دون موافقة صريحة.
من «سامسونغ» إلى «أبل»، و«غوغل» و«ميتا»، المشهد واحد: الأجهزة والتطبيقات ليست أدوات حيادية، بل منصات تتقاطع عندها مصالح تجارية واستخباراتية. تصريح النتن ياهو، وإن جاء بنكهة السُّخرية، فإنه يعكس حقيقة أن الهواتف اليوم تجمع بيانات أكثر مما تُعطيك خدمات.
وللتعامل مع هذا الواقع لا تفترض أن إعدادات «إيقاف الموقع» أو «الخصوصية» كافية. اقرأ بعُمق، وافهم آليات عمل التطبيقات. واستخدام بدائل، مثل محركات بحث كـ DuckDuckGo، وتطبيقات مشفرة (Signal بدلاً من واتساب)، والتحكم في الأذونات: راقب التطبيقات التي تطلب صلاحيات الكاميرا أو الميكروفون أو الموقع، والضغط المجتمعي والقانوني: كما فعلت كوريا. يمكن للتشريعات الصارمة أن تُجبر الشركات على الشفافية.
وبين استسلام واعٍ ومقاومة تقنية المستقبل القريب يشي بزيادة هذا النمط:
• إنترنت الأشياء (سيارات، ساعات، أجهزة منزلية)، سيُضاعف نقاط الدخول إلى حياتنا.
• الذكاء الاصطناعي سيجعل تحليل بياناتنا أكثر دقة وتأثيراً.
في المقابل، ستنمو تقنيات الحماية، مثل التشفير الشامل (end-to-end)، وأنظمة التشغيل المخصصة للخصوصية.
الخيار أمامنا واضح: إما أن نستسلم لواقع المراقبة تحت مسمَّى «الراحة والخدمات المجانية»، أو نختار أن نكون مستهلكين واعين نُطالب بالشفافية، ونستخدم الأدوات التي تحمينا.
خاتمة:
بين نكتة النتن ياهو، وتقارير الصحافة العالمية، خيط رفيع يفصل السُّخرية عن الحقيقة.
الهواتف لم تعد مجرَّد وسيلة اتصال، بل مرآة تعكس تفاصيل حياتنا، أحياناً أمام أعيُن لا نعرفها. والسؤال المطروح ليس: هل نحن مُراقَبون؟ بل: إلى أي مدى نحن مُستعدون للقبول أو للمقاومة؟ دمتم بود