«وقضيت الليل أسترجع أوراقي القديمة وخطابات الغرام وتصاوير اللواتي... كُن في عُمري كأسراب الحمام والعبارات التي كانت على قلبي برداً وسلام، وتسليت كثيراً... وتبسمت كثيراً. وأنا أفتح كنزاً عُمره عشرون عام... أين مَنْ كُن حبيباتي، ومَنْ أرسلن هذا الكلام، مَنْ تزوَّجن تزوَّجن ومَنْ أنجبن أنجبن... ومَنْ ضعن بأعماق الظلام... والخطابات التي أرسلنها لم تكن إلا كلاماً في كلام، والمواثيق التي أعطينها كُلها طارت كأسراب الحمام... آه كم ينقلب الإنسان في عشرين عام!».
لو كان الزمن خمسين عاماً بدلاً من العشرين، لكانت كلمات نزار أوقع وأصدق تعبيراً عن الماضي الآفل. كلمات تبث الحزن الجميل عن الماضي لكهول اليوم حين يتذكرون صورهم في صحيفة الذكريات كـ «دونجوانات» الأمس، والآن أضحوا كخيالات المآتة يسحبون أقدامهم بثقل، ويجرونها جراً على أرض الزمن القاسي، يتذكَّرون كلمة، وينسون ما بعدها.
لنزار عُذره بالعشرين عاماً، فالقصيدة كُتبت في بداية سبعينيات القرن الماضي. أما اليوم، فليس أمامنا إلا أن نجترَّ الأحلام والذكريات، إذا كُنتم تتذكَّرون القديم منها، فيما تنسون ما فعلتم بالأمس، وأين وضعتم مفاتيح المنزل.
بعد أن فحص الطبيب الرئيس ريغان، قال له: «لديَّ خبران أحدهما سيئ، والآخر أقل سوءاً»، فأجاب الرئيس: «أخبرني أولاً بالأسوأ». رد الطبيب: «سيِّدي الرئيس، عندك سرطان». عقَّب: ريغان: «إذن، ما الخبر الأقل سوءاً؟». أجاب الطبيب: «سيِّدي، عندك الزهايمر». ريغان: «خيراً، فعلى الأقل لن أعاني السرطان!».
هي المساحة التي بين أُذنيك، نسج فيها الزمن ثياب عُمرك الآفل. رقعت بظواهر ارتسمت فيها وأضحت خبرات، ثم نسيت بعضها، أو ربما كُلها، كما كُنت تنسى في شبابك أن لك موعداً مع النهاية، فتضيع بهوامش الأيام التي ولَّت من دون رجعة. كُنا كحكاية إيفان إييلتش في أيام الشباب، نلهو، ونُحُب، ونعشق، ونجري من دون هُدى نخطُو، ونشرب سكارى من كؤوس الفرح القصيرة... هكذا شخَّص لنا تولستوي تجربة الإنسان حين يضيع في زحمة الرغبات وطموح الصعود، وينسى وجوده.
ويمرُّ الوقت من دون دراية ووعي باللحظة، لنصحو فجأة ونحن قُرب الهاوية... ننسى أن هناك نهاية لمشوار العُمر... خلاص راحت أيامنا الحلوة، وانتهى الفيلم العربي من دون زواج البطل من البطلة. لم يعد المُخرج حسن الإمام معنا ليرسم لنا بشاشته سذاجة النهايات السعيدة دائماً... حسافة.