اليوم، لا يجتمع القادة العرب في الدوحة داخل قاعةٍ وحسب، إنما يلتئم في تلك اللحظة تاريخٌ كامل يطلب كلمة فاصلة وأفعالاً ناجعة ويستحثّ ضميراً عربياً طال عليه الصمت. غزة تنزف منذ شهور طويلة: أكثر من سبعين ألف شهيد، بينهم ثلاثون ألف طفل ورضيع، مئات آلاف الجرحى والمُهجّرين، أحياءٌ محوَّلة إلى ركام، ومستشفياتٌ صارت توابيت جماعية. والعالم، يكتفي بقلقٍ مُعلّبٍ لا يوقف قنبلة ولا يُنقذ طفلاً. أيها القادة إن الشعوب لا تطلب منكم إلا ما يحفظ كرامتها، وما يصون سيادتها، وأن تكون قمة القرارات المصيرية، لا قمة البيانات.
غزة... الصمود الذي هزم الحسم بالقوة
على الرغم من التفوق العسكري الهائل المدعوم من قوى كبرى، لم تُكسر المقاومة في غزة، ولم تنكسر إرادة شعبها. يفضح هذا الصمود سردية «الحسم بالقوة»، ويشي بأن الاستعراض العسكري قد يكون علامة ارتباكٍ داخليٍّ بقدر ما يبدو ثقةً بالنصر. هنا تحديداً تقف القمة أمام فرصةٍ تاريخية: تحويل الأزمة إلى منصة لبناء موقفٍ استراتيجيٍّ جماعيٍّ متماسك، يقوم على أمنٍ مشتركٍ واقتصادٍ متكامل، بدل تدوير بياناتٍ لم تعُد تُقنع طفلاً يفتّش عن رغيفٍ تحت هدير الطائرات.
سقوطُ وهم الحماية الدولية
الهجوم على قطر لحظةٌ كاشفة: تحالفاتٌ وثيقة، شراكاتٌ أمنيةٌ عميقة، حضورٌ اقتصاديٌّ كثيف. إذا كانت الدوحة ـ بكل ما تمثّل ـ غير محصّنة، فمن يملك الضمان لغيرها؟ هنا تتغيّر القواعد: لا سيادة يحميها إلا موقفٌ صلبٌ وإرادةٌ مشتركة. لا مكان لردود الفعل الانفعالية، المطلوب انتقالٌ من ثقافة الاستنكار إلى سياسة الفعل الاستباقي المنظّم، تُعلن أن الوساطة خطٌّ أحمر، وأن انتهاك السيادة يترتّب عليه ثمنٌ سياسيٌ وقانونيٌّ واقتصادي.
الاعتداء على قطر قصف للوسيط وقتل لشرف الوساطة
في قلب الدوحة، العاصمة التي حملت وساطةً وفتحت أبوابها لسلامٍ مُمكن، سقط صاروخٌ فَضَحَ ما تبقّى من هيبة قانونٍ دوليٍّ يُعطّل عند أول اختبار للعدالة. الهجوم على قطر يحمل دلالات مختلفة تماماً. فهو ليس استهدافاً لخصم تقليدي أو لحركة مسلحة، بل لضرب دولة ذات سيادة تلعب دور الوسيط وتستضيف المفاوضات وتسعى لحل النزاعات. بهذا الفعل ترسل إسرائيل رسالة مزدوجة: لا دولة محصنة، ولا حصانة حتى للدبلوماسية أو الوساطة.
قرارات الدوحة تزرع الأمل
إن رُوحَ هذه القمّة ينبغي أن تُعرِّف نفسها ليس ببيان ختامى نارى، بل بقراراتٍ تؤسس لمسار واضح، تبدا خطواتها فورا حتى لو كانت خطوات صغيرة: أوّلُ هذه القرارات إعلانُ وقفٍ شاملٍ ومباشر لكل أشكال التطبيع مع إسرائيل: تجميدُ علاقات، تعليقُ اتفاقياتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وثقافية، وإلغاءُ كل المبادرات التي رُوِّج لها غطاءً للتطبيع، وعلى رأسها ما سُمّي بـ «الديانة الإبراهيمية».
ثم يأتي القرار الذي يمتحنُ الصدقيةَ على الأرض: إنشاء صندوقٍ عربي – إسلامي لإعمار غزة، صندوقٌ للكرامة قبل أن يكون للمال، يبدأ فوراً بإعادة بناء المستشفيات والمدارس والمساكن، ويضمن تدفّق الغذاء والدواء والتعليم والخدمات الأساسية عبر ممراتٍ مُؤمّنةٍ يرعاها موقفٌ عربيٌّ موحَّد. المال العربي، حين يُستعاد لرسالته، قادرٌ على أن يسبق الإسعافَ بإعمارٍ يعيد الحياة إلى مدينةٍ أرادوا تحويلها إلى ذاكرةٍ من تراب.
ولأن العزم بلا سندٍ اقتصاديٍّ باقٍ مجرد صراخ، لا بدّ من قرارٍ يُخرجنا من التبعية إلى الاستقلال: الشروع في بناء سوقٍ عربيةٍ مشتركة للطاقة والغذاء تُقلّل الاعتماد على الخارج، وتؤسس لقدرةٍ تفاوضيةٍ أعلى، مع إعلانٍ صريحٍ بأن الشركات والمؤسسات العالمية المتورطة في تمويل الاحتلال أو تبريره ستواجه قيوداً ومراجعاتٍ في أسواقنا. بهذه اللغة وحدها يفهم العالم جدية الموقف.
ولا قيمة لوحدةِ موقفٍ خارجيٍّ وأجسادُنا الداخلية تنزف. لذلك تلزم إرادةٌ تُغلق ملفات الحروب العربية – العربية: في السودان واليمن وليبيا، حيث يستنزف الدمُ ما تبقّى من مناعةٍ استراتيجية. قمة الدوحة منصةٌ لإطلاق مسارات مصالحةٍ ملزمةٍ بزمنٍ محدد، لأن كل طلقةٍ في صدورنا هديةٌ مجانيةٌ تُصرف في رصيد خصمنا.
القانون ساحةٌ للردع أيضاً
آن لميزان العدالة أن يُستعاد كسلاحٍ مشروع. التحرك الفوري أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية لملاحقة جرائم الحرب في غزة، ولتوثيق انتهاك السيادة في الدوحة، ليس مشهداً بروتوكولياً، إنه حجرُ زاويةٍ في تحويل إسرائيل من مُدَّعٍ أبديٍّ بـ «حق الدفاع» إلى مُتَّهَمٍ مُسَمّى بجرائم محددة، مع توظيف قرار وقف إطلاق النار لعام 2024 كوثيقة إلزامٍ لا ورقةَ ضغطٍ ظرفية. وحين تُرفَدُ القاعة القانونية بقرارٍ عربيٍّ موحَّد، يتحول النصُّ إلى أداةِ ردعٍ متواصلة.
الإعلام... فتحُ جبهة الرواية
خسرت قضايانا كثيراً لأن روايتنا ظلت دفاعيةً ومُجزّأة نطالب بحملةً إعلاميةً عالميةً بعدّة لغات، تُخاطبُ الضمير الإنساني في عقر داره، تتبنّاها مؤسساتٌ عربيةٌ وإسلاميةٌ موحّدة، وتستند إلى أرشفةٍ موثقةٍ للجرائم، وإلى منصّاتٍ رقميةٍ تُخاطب الجيل الذي يرى العالم عبر شاشته.وفي السياق نفسه، يجب تجريم الإحتلال أخلاقياً ومهنياً: كل شراكةٍ اقتصاديةٍ أو إعلاميةٍ مع إسرائيل خيانةٌ لدماء غزة وجرح الدوحة، وتناقضٌ مع ميثاقٍ عربيٍّ إسلاميٍّ جديدٍ يُعلن في هذه القمة، يُلزم الحكومات والمؤسسات والنخب.
رسالة إلى الغرب... سقوط الأقنعة لا يعني سقوط الجسور
نقول للغرب من الدوحة: لن تُمحى دموع أوكرانيا بدم أطفال غزة، ولن تُصلح خطابات حقوق الإنسان ازدواجيةً تُصادِرُ سيادةَ دولةٍ وسيطةٍ قُصِفتْ لأنها فتحت باب حوار. ومع ذلك، تبقى الجسور ممكنةً حين تُحترم القواعد: سيادة الدول، قداسة المدنيين، وعلوية القانون. وما لم تُراجِعوا ميزانَكم الأخلاقيّ، فسيرتدُّ خطابُكم في وجوهكم مرآةً لا تحبون النظرَ فيها.
نحو خاتمةٍ تُشبه استئناف التاريخ
لن يسألنا التاريخُ غداً عمّا قلناه في الدوحة، سيسألنا عمّا قررناه. إن جعلتم هذه القمة قوسَ عبورٍ من البيان إلى القرار، كتبتُم لأنفسكم صفحةً بيضاء في زمنٍ أسود. وإن أنتم مددتم حبل التردّد، ألقيتم الأمة في بئرٍ أعمق مما هي فيه. غزة تناديكم بأرقامٍ ليست أرقاماً بل أسماءُ أحباءٍ مفقودين، الدوحة تناديكم بجرح سيادتها، والقدس، عروس العروبة، تصرخ: إلى متى تُستباح وهي في قلبكم؟ هذه فرصتكم لصياغة ميثاق الدوحة قبل أن يسبقنا الزمنُ إلى حيث لا تنفع البيانات ولا الخطب.
*وزير الصحة الأسبق