«إِنْ تَسْلَمِ الْجِلَّةُ فَالنَّيبُ هَدَر»... أحد أمثال العرب القديمة الصعبة الفهم، فالجِلَّة هنا هي جمعٌ لجَليل، والجليل هي العظام السمان من الإبل، أما النَّيبُ فهي النياق المسنَّة التي لم يعُد لها أي منفعة، فأصبحت هَدَرْ أي بلا قيمة، فالمقصود من هذا المثل الذي أُشكلت كل معاني كلماته عليَّ، أنه إذا سَلِم ما يُنتفع به من إبل شابّة فقد عوَّضت عن خسارة المُسِّنة منها، وقد يشبهه هنا المثل الكويتي «العوض ولا القطيعة».
وهناك أمثلة يمكن أن تكون شبيهة بمَثَلنا هذا، فيمكن الاستغناء عن «البقرة الشامطُ التي لا تدرُّ»، والشامط هي البقرة التي يذهب سنّها أو يضعُف ضرعها، فما فائدة بقرة لا تدر حليباً وفقدت قيمتها، ولم يعد فقدانها خسارة لصاحبها؟ كذلك يمكن التخلص من كل متهالك، أكان آلة أو أثاثاً، أو حتى موظفاً فقد نشاطه وعطاءه.
كذلك قيل قديماً: «للحرب بَنوها، وللسّلْم بَنوه»، فهناك أولويات، فالحروب لها رجالها ولها مواردها، ولا يمكن التضحية بهما، ولكن في السّلم تختلف الأمور، ويصبح رجال الاقتصاد والتنمية والعلم هم الأهم، وهم مَن يجب الاعتماد عليهم بعد أن تغيّرت الأولويات، فلكل ظرفٍ تضحياته.
وقد يقال: «إذا فسد الرأي فالنفْس تُفدَى»: فمن كان ذا رأي فاسد فسيُعرّض غيره للخطر، فعندها لا مناص من التضحية به من أجل سلامة الجميع، فقيمة الإنسان في عزيمته وحكمته وصواب رأيه، وإذا ما فقده فقد أصبح بلا فائدة وصار من الأوجب الاستغناء عنه.
فالمثَل «إِنْ تَسْلَمِ الْجِلَّةُ فَالنَّيبُ هَدَر»، مثلٌ براغماتي بجدارة، فهو عملي وواقعي، وهو ليس ببعيد عن قول «الجود من الموجود»، و«عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة»، فاستفد مما توفر لديك، بدلاً من إضاعة جهدك على استرداد ما لا فائدة تُرجى من ورائه، أو ما هو ليس من المضمون الحصول عليه، واستفد من الموارد التي سلمت لديك من مال وزاد، أو ما له قيمة وأهمية لك، فهو أفضل، لأنه سيصبح من الممكن التعويض به عمّا خسرته، والتضحية بما هو أقل أهمية من أجل الحفاظ على ما هو أقيَم لأمر محمود.