عُرفت الدول العربية منذ بدايات تشكيل جيوشها الحديثة بتسميات ذات دلالة واضحة على الطابع القتالي، مثل: وزارة الجهاد في «مصر العثمانية»، التي بدأت تحت اسم «نظارة الجهادية»، ثم تحوَّلت إلى وزارة الحربية، فوزارة الدفاع، بعد إبرام اتفاقية السلام، ووزارة الحربية في سورية، ووزارة القوات المسلحة في الجزائر. وقد كان ذلك امتداداً للتقليد العثماني الذي عُرفت فيه المؤسسة العسكرية بـ «ديوان الجهادية»، ثم وزارة الحربية.
غير أن هذه التسميات ما لبثت أن اختفت تدريجياً بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حين فرضت القوى الكبرى- ومعها النظام الدولي الجديد، المُتجسِّد في الأمم المتحدة- لغةً جديدة أكثر نعومة: وزارة الدفاع.
كان المطلوب أن يتوارى الخطاب الصريح عن الحرب وراء مصطلحات تُوحي بالحماية والشرعية الدولية. ومن هنا صار اسم «الدفاع» هو التعبير الرسمي عن الجيوش العربية، حتى في البلدان التي كانت تخوض حروب تحرير ضد الاستعمار.
اليوم، وبعد أكثر من سبعة عقود على هذا التحوُّل، يعود الرئيس الأميركي Trump ليُحيي هذا الاسم، مُعلناً عزمه إعادة تسمية وزارة الدفاع الأميركية إلى وزارة الحرب.
المسمَّى بالنسبة له ليس مجرَّد تغييرٍ شكلي، بل إشارة رمزية إلى أن زمن «الدبلوماسية» و«اللغة الناعمة» قد ولَّى. فقد صرَّح بأن الولايات المتحدة انتصرت في الحروب الكبرى تحت اسم وزارة الحرب، وأنها منذ غيَّرت الاسم إلى وزارة الدفاع لم تكسب حرباً واحدة.
لكن الخطر يتضاعف مع شخصية وزير الدفاع الذي اختاره ترامب Pete Hegseth، الذي تبنَّى لقب «وزير الحرب» بكُل حفاوة. فهو يعيش حالة الفارس الصليبي الذي ينتظر وقت تصفية الحسابات، ويضع على جسده أوشاماً ذات رمزية صليبية متطرفة، بينها عبارة «أنا كافر» بالعربي (بكل استفزاز وتحدٍّ). وقد ألَّف كتاباً بعنوان «American Crusade» (الحملة الصليبية الأميركية)، يقول فيه بصراحة إنه كما كسر الفرسان الصليبيون شوكة الإسلام، يجب على الصليبيين اليوم إعادة الكرَّة. فهم يسعون إلى كسر شوكة المسلمين، والهيمنة الكُلية عليهم.
إن مسار التسميات في العالم العربي من وزارة «الجهاد» ثم «الحربية» إلى وزارة الدفاع لم يكن مجرَّد تغيير لغوي، بل فرضته ظروف سياسية ودولية جعلت لغة «الدفاع» هي المقبولة. فقد كان العالم، بعد مآسي حربين عالميتين، يبحث عن صياغةٍ تُخفي أنياب القوة خلف الحماية والدفاع.
أما عودة أميركا اليوم إلى تبَنِّي اسم «وزارة الحرب» رغم تكلفتها الباهظة، التي تصل وفق ما رصده الخبراء والمراقبون في الإعلام الأميركي إلى مليار دولار، فقط لتبديل الاسم وتوابعه والشعارات بالكامل، فهي ليست عودة بريئة، بل رسالة سياسية متعمَّدة تعلن أن واشنطن لم تعد ترى حاجة إلى أقنعة لفظية، ومَنْ يقاتل عنها بالإنابة، كالصهيونية. إنها تقول للعالم بوضوح: نحن الأسياد، ونحن الأجدر برفع هذا الاسم (وزارة الحرب)، ولسنا بحاجة إلى التلطف مع أي أحد. بمعنى آخر: «نحن الدولة العظمى، وجيشنا الأقوى، ونحن مَنْ نقرِّر الحرب والهجوم، وتركنا لكم الاستسلام أو الدفاع».