لم يكن قرار تفكيك عملاق الأغذية العالمي، شركة «كرافت - هاينز»، مجرد إخفاق نادر في مسيرة الملياردير الأميركي الذائع الصّيت، وارن بافيت، (94 عاما)، الذي يستعد للتنحي عن منصبه كرئيس تنفيذي لشركته الضخمة، «بيركشاير هاثاواي»، مع نهاية العام، ليختم مسيرة استمرت 6 عقود حقق خلالها أرباحاً طائلة من استثمارات باتت مرجعية لحركة صناديق ومؤشرات عالمية، بل إجراء احتوى على مجموعة من الدروس للشركات العالمية.
فمع مطلع أغسطس الماضي، خفضت «بيركشاير» القيمة الدفترية لاستثمارها في «كرافت - هاينز» إلى نحو النصف (8.4 مليارات دولار)، بعد أن كانت تتجاوز 17 ملياراً في نهاية عام 2017، حيث انخفض السهم بنسبة 62 بالمئة، بينما ارتفع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 202 بالمئة خلال الفترة نفسها، لتطوي أكثر من عقد من اندماج الشركتين التي بدأت عام 2013، عندما تحالف بافيت مع شركة الاستثمار البرازيلية 3g كابيتال لشراء شركة هاينز، في صفقة بلغت قيمتها 23 مليار دولار كانت الأضخم على الإطلاق في قطاع صناعة الأغذية، حيث اتفقت الشركتان على الانفصال بداية شهر سبتمبر الجاري مع اقتسام صناعة المنتجات.
اجتماع نادرولعل في اجتماع عدد من المعطيات من النادر اجتماعها في وقت واحد كخسارة ملياردير بخبرة بافيت في تحالف شركتي أغذية عالميتين بقطاع مربح واستهلاكي كقطاع الأغذية ما يستحق ليس فقط البحث والتحليل، إنما في فهم الدروس التي تكشف مجموعة من المتغيرات والمفاهيم الجديدة التي باتت تتحكم بالتجارة العالمية، وعنواها الرئيسي أهمية دور قطاع الأبحاث في أي شركة في فهم اتجاهات الأسواق وأذواق المستهلكين وتأثيرها على المبيعات والتسويق والقدرة على استقطاب الأجيال الجديدة من الزبائن.
وعي «جيل z»
أدى انتشار الثقافة الغذائية الصحية المرافقة لتصاعد موجة الطلب على أدوية إنقاص الوزن كالازومبيك والمونجارو الى خسارة شريحة كبيرة من مستهلكي منتجات الشركة ذات الأغذية المصنعة والمعلّبة، في إشارة الى تحوّل لافت بالسلوك الغذائي، لا سيما لدى شرائح الفئات الأصغر سناً أو ما يُعرف بـ «جيل z»، الذين باتوا يتجهون الى خيارات التنحيف من الرياضة والأدوية، فضلاً عن الأطعمة الصحية والطازجة، مع تنامي الوعي بمخاوف الأمراض الناجمة عن الأنماط الغذائية غير الصحية، كالسكّري والسرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية، وهو أمر يحمل دروساً عديدة في أهمية وجود قطاع أبحاث ذي كفاءة عالية لدى الشركات العالمية، خصوصاً ذات العلاقة المباشرة بمبيعات المستهلكين يقيس بشكل دروي التغيرات الجوهرية في الأذواق والبدائل، لاسيما الأصغر سنا، أي الشرائح الأكثر توجيها للاستهلاك والإنفاق في المستقبل.
سلاسل وتضخمكذلك تأثرت شركة «كرافت - هاينز»، التي تعد ثالث أكبر كيان غذائي في العالم قبل تفككها بالارتفاعات القياسية في أسعار السلع الغذائية الأساسية العالمية المرتبطة بتداعيات جائحة كورونا عام 2020، فضلا عن الآثار الاقتصادية السلبية التي خلّفتها الحرب الروسية - الأوكرانية على قيود سلاسل الإمدادات العالمية، خصوصاً على المواد الأوّلية كصادرات الحبوب والزيوت النباتية من البحر الأسود، إلى جانب رفع تكلفة الشحن والتأمين، مما دعم تضخم أسعار منتجاتها في الأسواق العالمية، وبالتالي باتت أقل طلباً لدى جمهور المستهلكين.
مناخ ومقاطعة
بشكل عام، تواجه شركات الأغذية الكبرى في العالم ضغوطاً متزايدة مع الآثار المترتبة على التغيير المناخي، خصوصاً في مصادر الغذاء الأولية كإفريقيا وشرق آسيا وأميركا اللاتينية، ولم تكن «كرافت - هاينز» بعيدة عن هذه الضغوط حتى مع منتجاتها المعلّبة والمصنعة، وتحديداً منتجات الزيوت والحبوب، فزادت ضغوط المناخ من متاعب نموذج أعمال الشركة في العديد من أسواقها، فضلا عن أن الشركة تعرّضت لحملات مقاطعة قوية في المنطقة العربية وأوروبا والولايات المتحدة منذ أكتوبر 2023، نتيجة ارتباطها بحملات تدعم الكيان الصهيوني في عدوانه على غزة.
تقليص وابتكارورغم عمليات تقليص النفقات وتسريح آلاف الموظفين وبيع بعض الوحدات وإغلاق المنافذ وهيكلة الأنشطة، لم تتمكن الشركة المندمجة بين «كرافت وهاينز» من مجاراة التحولات السريعة في أذواق المستهلكين ولا تحديات سلاسل التوريد والتضخم، ولا حتى التغيّر المناخي أو المقاطعة، بل إن الشركة الضخمة تلقت تحذيرات من جهات استشارية بشأن مخاطر التركيز المفرط على تقليص التكاليف المالية على حساب تحديات نموذج أعمالها، لا سيما الابتكار في المنتجات ومسايرة أذواق المستهلكين.
استفادة خليجية
وبالنسبة لنا في المنطقة العربية، وتحديداً دول مجلس التعاون الخليجي، فإن ما يهمنا من انفصال «كرافت - هاينز» هي الدورس المستفادة من فشل اندماج عملاق غذائي تنتشر منتجاته على أرفف منافذ البيع في جميع دول العالم تقريباً، وأهمها ضرورة رفع نسبة الاستثمار في قطاعات الأبحاث الاقتصادية والتجارية وارتباطاتها الاجتماعية والبيئية وحتى النفسية، لفهم تحولات الأسواق وخيارات المستهلكين، فضلاً عن أهمية الابتكار في المنتجات وتوافقها مع اتجاهات الاستهلاك، إضافة إلى أخذ تحوطات في دول وشركات الخليج التي تستورد ما بين 70 و90 بالمئة من احتياجاتها الغذائية والدوائية تجاه المصاعب المتزايدة في سلاسل الإمداد والتضخم والتغيّر المناخي، وأيضاً المقاطعة للشركات والوكالات التي تعاكس الرأي العام العربي الداعم للقضية الفلسطينية، كذلك من المهم أيضاً فهم أن اندماج الكيانات التجارية في كيان ضخم لا يعني بالضرورة تحقيق نتيجة صحيحة أو مفيدة.