المبادئ القانونية الراسخة، مثل «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، و«لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص»، و«لا يجوز محاكمة الشخص عن الفعل ذاته مرتين»، ليست مجرد شعارات، بل تمثل ركائز أساسية في دساتير الدول المتحضّرة، وتُعاد صياغتها وتأكيدها في المدونات الجزائية لضمان حماية الحقوق والحريات الفردية من تعسف السلطة.
هذه المبادئ ليست نابعة من فراغ، ولا يمكن اعتبارها مسلمات اعتباطية، بل تُعدّ معياراً حاسماً تُقاس به درجة تطور الدول واحترامها لسيادة القانون. فالقانون، في جوهره، ليس فقط أداة لتنظيم العلاقات بين الأفراد وضبط السلوك المجتمعي، بل هو قبل كل شيء قيد على سلطة الحكومة يمنعها من ممارسة سلطتها بشكل اعتباطي في التشريع أو التنفيذ. هكذا يفترض أن تكون دولة القانون والمؤسسات.
لكن ما نشهده اليوم من ممارسات مناقضة لتلك المبادئ يبعث على القلق. فقيام وزارة الداخلية، في أكثر من مناسبة، بنشر صور وأسماء مشتبه فيهم عبر وسائل الإعلام يمثل خرقاً صريحاً للضمانات القانونية والدستورية. فهذا النشر العلني يرقى إلى مستوى «الإدانة المسبقة»، حتى قبل أن يُحال هؤلاء الأشخاص إلى المحاكم المختصة أو تُوجه إليهم تهم رسمية من جانب النيابة العامة.
بررت الوزارة هذه الخطوة عبر بعض التصريحات الصحافية، مشيرة إلى أن الهدف من النشر هو «الردع العام» وإيصال رسالة حاسمة مفادها أن «عين الأمن لا تنام»، وأن على كل من تسوّل له نفسه التفكير في الجريمة أن يعيد حساباته. ولكن هذا التبرير، رغم النيات المعلنة، يتجاهل حقيقة جوهرية: الردع لا يتحقق إلا من خلال محاكمة عادلة تصدر فيها أحكام قضائية نهائية وملزمة.
النشر الإعلامي لصور وأسماء مشتبه بهم، دون حكم قضائي، هو في ذاته نوع من العقوبة الجماعية التي لم ينص عليها القانون، وتمس ليس فقط المتهمين بل أيضاً أسرهم وسمعتهم في المجتمع. فماذا لو ثبتت براءة هؤلاء لاحقاً عبر جميع درجات التقاضي؟ كيف يمكن حينها جبر الضرر المعنوي والاجتماعي الذي تعرضوا له؟ وكيف نضمن مستقبلاً صون حقوق الآخرين إذا لم تُحترم الإجراءات القانونية الدقيقة والمحايدة؟
في نهاية المطاف، الثقة بالقانون لا تنبع من الشعارات، بل من احترام الإجراءات. وحين تتراجع هذه الإجراءات أمام اعتبارات «الردع الإعلامي»، فإننا لا نكون أمام دولة قانون، بل أمام استعراض سلطوي يستهدف الإنسان قبل الجريمة.