لم يكن عرض «الفانوس»، الذي استضافه مسرح الطليعة بالقاهرة ضمن فعاليات الدورة الثانية والثلاثين من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، مجرد مشاركة إماراتية جديدة، بل تجربة مسرحية خاصة حملت توقيع المخرج الكويتي د. خالد أمين، وسعت إلى إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والمسرح من خلال رؤية بصرية وشعرية متقشفة في الشكل، عميقة في المضمون.
النص، الذي كتبه الشاعر محمد سعيد الضنحاني، انفتح على مساحة رمزية واسعة تحتمل التأويل، وقدمه الممثل عبدالله التركماني بصوت وإيماءات جسّدت الصراع الداخلي الذي يدور في أعماق الإنسان بين النور والظلام.
غير أن الثقل الحقيقي للعمل كان في مقاربة المخرج الذي تعمّد الابتعاد عن الاستعراض البصري والديكورات الضخمة، مفضّلًا أن يترك فضاء الخشبة شبه فارغ، تقوده الإضاءة والظل وحضور العرائس الرمزية.
هذا الاختيار لم يكن نقصًا، بل كان قرارا فنيا واضحا، هدفه أن يجعل المشاهد شريكا في إنتاج المعنى، وأن يدفعه إلى مواجهة ذاته بدل الاكتفاء بمتعة المشاهدة العابرة.
خالد أمين بدا في «الفانوس» وفيّا لمشروعه المسرحي الذي يقوم على التجريب المرتبط بالهوية، لكنّه ذهب هذه المرة أبعد في اختبار العلاقة بين اللغة الشعرية التي يتسم بها النص والبُعد البصري الذي يمنحه العرض. الصمت الذي تمدد على الخشبة لم يكن فراغًا، بل كان عنصرا دراميا أساسيا في تصعيد التوتر، حيث أتاح للمشهد أن يتنفس ببطء ويضع المتفرج في مواجهة أسئلته الداخلية. الفانوس الذي يظهر ويختفي لم يكن مجرد رمز للضوء، بل علامة على الذاكرة والهشاشة الإنسانية أمام فكرة الفناء.
وأكد أمين، في تصريحاته على هامش العرض، أن المسرح بالنسبة له «فعل مقاومة للغياب»، مشددا على أن التجربة قامت على فكرة البحث عن المعنى في مواجهة الفناء.
وأضاف أنهم عملوا على تقديم عرض يستحضر الهوية ويواكب التجديد، لكن دون أن نتنازل عن فكرة البساطة التي تمنح العمل عمقه.
«الفانوس» لم يكن رمزا للضوء فقط، بل للذاكرة ولحضور الإنسان أمام محنته الكبرى، مؤكداً أن هدفه الأساسي لم يكن تقديم إجابات جاهزة، بل توليد الأسئلة، لأن المسرح في جوهره ليس مجرد فُرجة، بل مساحة لتوليد الأسئلة، لهذا سعي إلى أن يكون الجمهور جزءًا من التجربة، لا مجرد متفرّج من بعيد.
الأداء الذي قدّمه عبدالله التركماني جاء امتدادا طبيعيًا لرؤية المخرج، فقد جسّد الشخصية بصوت متوتر وإيماءات متقطعة وحركات متباطئة أحيانا، بدت وكأنها انعكاس لصراع داخلي يواجه فيه الإنسان ذاته تحت وطأة الذاكرة والخوف، أيضاً العرائس والظلال التي حضرت إلى جانبه لم تكن زينة، بل عناصر رمزية تشارك في بناء هذا الصراع، وجعلت من الجسد البشري مساحة مسرحية تختلط فيها الحقيقة بالخيال.
واللافت أن العرض لم يكن منفصلا عن بُعد توثيقي موازٍ، حيث شهد المهرجان توقيع كتاب المسرحية في نسختيه العربية والإنكليزية، وهو ما جعل من التجربة مشروعا متكاملا يجمع بين الأداء الحي والنص المكتوب، ورأى المخرج في ذلك فرصة لتوسيع دائرة الحوار، إذ إن النص يصبح متاحا للقراءة والنقاش بعد انتهاء العرض، وبذلك يتواصل أثره خارج حدود الخشبة.