الحياة رحلة تتدرج مراحلها بين الطفولة والشباب، ثم اندفاع العمل والعطاء. وفي كل مرحلة يضع الإنسان لبنة في بناء ذاته، ويسعى لتحقيق أثر يليق بعمره وتجاربه. سنوات طويلة يقضيها في مضمار الحياة، بين مسؤوليات مهنية وأخرى اجتماعية، حتى يصبح الزمن كتاباً عامراً بالصفحات المكتظة بالكدّ والسعي.
ومع مرور الأيام، يكتشف المرء أن الكدح لم يكن غاية في ذاته، بل جسراً إلى وعي أعمق. لحظة التقاعد ليست نهاية كما قد يتوهم البعض، بل بداية مختلفة، عنوانها الاكتفاء وراحة النفس. إنها فرصة للإنسان ليقف مع نفسه وقفة تأمل، يراجع فيها حصاده، ويكتشف أن أجمل الثمار ليست المناصب ولا الألقاب، بل سكينة الروح وطمأنينة القلب.
وقد عبّر ابن سينا عن ذلك بقوله: «من لم يقنع لم يَزَل في مذلّة، ومن قنع فهو الغني بلا مال»، في حين قال غاندي: «الاكتفاء هو أعظم ثروة يمكن أن يمتلكها الإنسان». وأضاف الروائي باولو كويلو: «اللحظة التي تقرر فيها الاكتفاء بما لديك، هي اللحظة التي تبدأ فيها الحرية الحقيقية».
التقاعد ليس انسحاباً من الحياة، بل انسحاب من ضوضائها. إنه فسحة للجلوس مع الذات، لتأمل الطريق، وتذوّق ثمار الصبر. في هذه المرحلة، يصبح المرء أكثر إدراكاً أن الربح الأصيل هو السلام الداخلي، وأن الذكريات الصافية أغلى من أي رصيد آخر.
وقد قال الشاعر أبو العتاهية:
إذا غمرتْكَ نعمُ اللهِ فاشكُرها
فقيدُها الشكرُ يحفظُها من الزوالِ
التقاعد لحظة تستحق أن تُستقبل بهدوء ورضا، فهي لا تعني انطفاء الدور، بل تحوّله من ميدان العمل إلى ميدان الذات والعائلة والمجتمع. إنها فسحة للاهتمام بما غُفل عنه، وللانشغال بما يبقى أثره، ولإعادة اكتشاف معنى الراحة بعد رحلة طويلة من العطاء.
فالاكتفاء ليس عزوفاً عن الدنيا، بل حكمة في التعامل معها، واختيار للسكينة بعد عناء السنين. وفي لحظة الاكتفاء يدرك الإنسان أن أعظم ما يملك، ليس ما دوّنته دفاتر الوظيفة ولا ما جمعه العمر، بل ما شيّده في داخله من سلام وصفاء.
وهكذا يبقى التقاعد بداية لا نهاية، واكتفاءً لا فراغاً، وسلاماً لا انقطاعاً، إنّه الموعد الحقيقي مع الذات، حيث تتجلى حكمة العمر وتصفو الروح من ضجيج الالتزامات، هناك يدرك المرء أن العطاء الأجمل لا يُقاس بما أنجزه في سنوات عمله، بل بما يزرعه من سكينة في نفسه، وطمأنينة في قلبه، وانعكاس ذلك على من حوله. فالتقاعد ليس انسحاباً من مسرح الحياة، بل انتقالٌ إلى أفق أرحب، يتيح للإنسان أن يرى المشهد أوسع وأعمق، ويكتشف أن أجمل ما يُمنح للآخرين يبدأ حين يمنح ذاته حق السكينة والصفاء.