العالم الموسوعة، والإنسان الاستثنائي، البيروني، إنه أبوالريحان محمد بن أحمد البيروني، المولود في مدينة خوارزم الواقعة في أوزبكستان حالياً، في عهد الدولة العباسية، في عصر التنوير والانفتاح قبل أن تهيمن عليه العقول المتحجرة التكفيرية، ويبدو أنه لُقب بالبيروني، أي الغريب، لغربته الطويلة عن مسقط رأسه.

أتقن البيروني عدة لغات، كالعربية، والفارسية، واليونانية، والسنسكريتية، والسريانية، وغيرها من لغات، وكتب معظم مؤلفاته باللغة العربية التي كانت في وقتها لغة العصر، لغة العلم والثقافة، وعاش حياة حافلة بالسفر، فتنقل بين عدة أمم لينهل منها العلم والمعرفة.

Ad

من أبرز الأماكن التي استقر بها، ضاحية كاث في خوارزم، التي عاش فيها فترة قبل أن يبدأ رحلاته إلى جرجان، (إيران حالياً)، ثم إلى غزنة، (أفغانستان حالياً)، والتي أنتج فيها أبرز علومه، وفيها قضى معظم حياته في بلاط السلاطين الغزنويين، ومنها ذهب إلى الهند مرافقاً للسلطان محمود الغزنوي في حملاته عليها، حيث توفي فيها، أي غزنة، عام 1048م.

كان البيروني، فعلاً عالماً فذاً لا يُشق له غبار، ذاع صيته في الشرق والغرب، وبرع في اكتشافات واختراعات في وقت وزمان لم يستوعبه الكثير من العلماء لا في زمانه ولا حتى من جاء بعده، فالعالم لا يزال حتى الآن ينهل من علمه وعلومه.

اعتُبر البيروني، بلا منازع، أحد أعظم العلماء في تاريخ الحضارة الإسلامية، بل وفي تاريخ البشرية، فقد كان عالماً موسوعياً وعبقرياً في العديد من المجالات، حتى وُصف بأنه أعظم عقلية عرفها التاريخ، فهو موسوعة إنسانية نادرة، حيث اشتهر بتعدد اهتماماته ونبوغه في فروع علمية مختلفة، كالفلك والرياضيات، حيث كان أحد الرواد فيهما، وهو أول مَن توصّل إلى حساب قطر الأرض بدقة عجيبة، وأول من برهن على دوران الأرض حول محورها، وكان له باع طويل في علم المثلثات، ونبغ في الجيولوجيا والجغرافيا، ووضع نظريات سبقت عصره في الجيولوجيا وعلم طبقات الأرض، وشرح تكوينها وتغيّراتها عبر العصور، كما نبغ في الطب والصيدلة، وجال في التاريخ والفلسفة.

ألّف البيروني أكثر من 120 كتاباً، أشهر ما وصل إلينا منها كتاب «القانون المسعودي» في الفلك والجغرافيا والرياضيات، و«تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، الذي عُدّ من أهم المراجع عن حضارة الهند القديمة، و«التفهيم لأوائل صناعة التنجيم»، وهو عن الفلك، وكتاب «الصيدلة في الطب» الذي اعتُبر موسوعة في الأدوية والعقاقير، وكتاب «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، الذي وثَّق فيه تاريخ الأمم والشعوب السابقة.

واللافت أن البيروني كان يفتخر باللغة العربية مع أنها لم تكن لغته الأم، ولذلك حرص على كتابة معظم وأهم أعماله بها، لإيمانه بأنها لغة العلم في ذلك العصر، فيا ليت التاريخ يعود بنا يوماً إلى عصر النهضة والتنوير، أو يأتي لنا بالبيروني، ومن معه من علماء الأمة ليعيدوا لنا مجدنا الغابر.