عن العباسية القديمة، كتب نجيب محفوظ في «قشتمر»: «هل بقي منها أثر؟ أين الحقول، أين النخلة ومجلسها، وغابة التين الشوكي، أين البيوت ذوات الحدائق الخلفية، أين السريات والقلاع...؟ هل نرى اليوم إلا غابات من الأسمنت المسلح ومظاهرات من المركبات المكنونة؟ هل نسمع إلا الضجيج والضوضاء؟ هل تحدق بنا إلا أكوام الزبالة؟ كلما ضن الحاضر بنبأ يسُر هرعنا إلى الماضي نقطف من ثماره الغائبة».
ماذا يبهج الجماعة هنا الذين بين كل فترة وأخرى يتفاخرون برسائل «واتساب» أو غيرها عن مول كبير جديد، وسوق حديث، ومقاهٍ ومطاعم فاست فود، أو شاليهات فارهة للإيجارات، يُفترض أنها من أملاك الدولة، وأصبحت في لحظة غائبة حصة انتفاع خاصة ينفخ ريعها في جيوب المستحوذين...!
على ماذا يهلل نجوم الاستهلاك ويتفاخرون بهذه أو تلك الأبراج التجارية... تصعد للسماء تنطح أكوام الغبار العالق... تتفاخرون «مستانسين على شنو ياخلاف»، لستم مَن بنى ولا مَن صمم تلك الأبراج والمولات، لستُم إلا مجموعات استهلاكية لأصنام الحداثة الخاوية، حداثة لم تقم على الفكر ولا الإبداع، ولم تكن نتيجة جهد وشقاء الإنسان، هي وليدة صدفة النفط، حظ تحقق بصدفة المكان يكسر الصخر، مثلما كان البؤس والألم والجوع والموت من نصيب أهل غزة والسودان، وفي كل مكان استوطنت فيه أشباح الموت والألم.
صنمية يتعبدون عندها، «فتشية» مقدسة زيفت وعي الناس، مسحت الهوية تماماً، ماذا لدينا الآن غير قلاع الأسمنت وسيارات تسير دون هدى، وأخرى «سافطة» بكل بقعة في الأرض، وبعض البشر المرضى في وعيهم يرددون مثل الببغاوات: هويتنا وهويتكم، نحن وأنتم... يا الله تخلف عليكم...