كلما وضعت عبارة هنا لم تتمالك أن تعلق فيها على خبر آخر مستفز، وهي كثيرة في بلادنا هذه الأيام، وكأنك ترمي بحجر صغير في مياه راكدة كبحر الخليج، فجأة تخرج الكثير من الثعابين حتماً، ولكن معها أيضاً بعض الأسئلة البريئة وفي معظمها تطالب بمعرفة السبب، أي «لماذا؟»، أو «ما الذي حدث؟». وفي وقت يدعي الكثيرون من الكُتاب أنهم على علم ومعرفة بالإجابة الواضحة والعلمية لتفسير ما حدث لنا ولمجتمعاتنا بعضنا يعترف بالعجز عن إعطاء التفسير الوافي إلا في إعادة قراءة لبعض المفكرين والمحللين الذين عملوا بجهد عظيم لتفكيك المجتمعات وعلاقتها بالسلطات المختلفة أو علاقة المجتمع بالدولة. كان أولهم وربما أهمهم ابن خلدون عندما عاين الصراعات بين السلطان، والناس، والعصبية، والجماعة. فهو من أكد أنه إذا قويت جماعة ما وسيطرت على مفاصل الدولة فهي سرعان ما تميل إلى احتواء كل ما حولها. أي تخلق مغريات للضعيف وأدوات للقوي وتهيمن تدريجياً ليس فقط على مفاصل الدولة، بل على كل المؤسسات التي تعبر عن الناس من نقابات الحرفيين والمزارعين إلى روابط العلماء والتجار، وكلهم كانوا حتى في ذاك الزمن البعيد يتقلبون بين كونهم صوت الناس وبين التوجيه السلطاني، أي بين حلم الاستقلال وواقع الهيمنة!

يمضي الوقت سريعاً، وتبدأ الجمعيات المهنية والتخصصية في الانتشار حتى أصبح البعض يرى فيها وسيلة للنفوذ أو الوصول إلى مراكز صنع القرار أو حتى المنفعة الذاتية البحتة. وهنا وجد كثير منها نفسه بين مطرقة قبضة السلطة وغواية المصالح الخارجية التي تتسلل لها عبر التمويل تارة وعبر التظاهر بأنها تدافع عنها وعن حقوقها ومصالحها تارة أخرى. في «شخصية مصر» للعبقري جمال حمدان هناك ما يشير إلى أن أخطر ما يواجه الأمم هو أن تتحول الجمعيات والنقابات، التي نشأت لخدمة الناس، إلى أذرع تتلون بألوان السلطة التي تعيد تشكيلها بحسب متطلبات اللحظة السياسية والتوازنات الإقليمية والدولية. هنا يسقط الحلم الذي كان في الدفاع عن هذه الفئة أو تلك مثل الصحافيين والإعلاميين، إلى آلية ضبط وترويض وربما تطبيل وتمجيد حتى للقوانين والأنظمة التي تكبل العاملين في هذا المجال أو ذاك، ويتحول الحراك إلى مسرحية فاشلة لجمعية صورية! هنا تتراجع هذه الجمعيات وتبعد عن دورها الأصلي لتصبح صوتاً آخر للسلطة المهيمنة، وتتقلص تدريجياً لتبقى جمعية خاصة بالحفلات في المناسبات فقط، ويتحول القائمون عليها من مهنيين حقيقيين مدافعين عن المهنة وحقوق العاملين فيها إلى منظمي حفلات ورحلات ترفيهية، ويسقط الجميع في نفس المستنقع! وقد كشف كثير من الباحثين مثل نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد وجوزيف ناي عن مثل هذه الهيمنة «الناعمة» على مؤسسات المجتمع المدني، وخصوصاً الجمعيات المهنية التي تفرغ من مضامينها وكونها صوتاً للفئات التي تمثلها وصوتاً للناس كذلك، لتتحول إلى مؤسسات بيروقراطية شكلية لتجميل وجه الهيمنة أو تمرير المشروعات التي هي بعيدة عن مصالح فئات من الناس إن لم يكن كلهم. ومنذ السابع من أكتوبر ومثل هذه الجمعيات والمؤسسات تتعرى واحدة بعد الأخرى، كما هو حالها عندما يمر البلد أو المنطقة أو الشعوب بأزمات معيشية، اقتصادية، اجتماعية أو سياسية. فتكثر الجمعيات التي تعقد مؤتمرات وندوات تحت رعاية الدولة، وتصدر البيانات أو التصريحات المتماهية مع خطاب السلطة، وتكتفي بالاحتفاء بإنجازات الحكومة التي هي معدومة وتتغاضى عن الانتهاكات في الحقوق. هنا تسقط النقابات والجمعيات تلك المهنية منها والمعنية بالتنمية وحقوق الإنسان لتتحول إلى هياكل مجردة من الروح عاجزة عن التأثير في الوعي أو أن تكون صوتاً للناس. أمام هذا المشهد المركب، يصبح السؤال: ما السبيل إلى استعادة دور المجتمع المدني الحقيقي؟ هل انتهى زمن الجمعيات المستقلة والنقابات الحرة؟ أم أن ثمة إمكانية لبعث روح جديدة، تعيد للمجتمع المدني بريقه ودوره كسلطة رابعة تراقب وتحاسب وتقاوم التبعية؟ والإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، لكنها تبدأ من إدراك عميق أن المجتمع المدني لا يُختزل في الجمعيات المسجلة أو النقابات القانونية، بل هو في جوهره حراك الناس وحلمهم بالدفاع عن حقوقهم وكرامتهم. وأن استقلال المجتمع المدني ليس منحة تُعطى من السلطة أو المانح، بل هو معركة دائمة تتطلب وعياً جماعياً وإرادة سياسية وتضحية بالامتيازات من أجل المصلحة العامة.

* يُنَشر بالتزامن مع الشروق المصرية
Ad