منذ أن خطت القدم البشرية أولى خطواتها على وجه الأرض، والتاريخ يكتب سطوره بمداد الدم والعرق والدموع. لكنّ هناك تاريخاً آخر لم يكن يُكتب على جدران الكهوف أو في أسفار الملوك، بل كان يُنقش في صمتٍ على خيوطٍ لولبية دقيقة، وداخل خلايا جسم الإنسان واسمها الـ DNA. لقد ظن الإنسان طويلاً أن التاريخ محفوظ في كُتب المؤرخين، فإذا به يكتشف أن جسده نفسه كتاب، وأن كل خلية تحمل ذاكرةً أصدق من الذاكرة، ودفتراً لا يعرف الكذب ولا النسيان. في كل شَعرة، وفي كل بصمة، وفي كل قطرة دم، تختبئ قصة آبائه وأجداده، وهجراتهم وصراعاتهم، وأحزانهم وانتصاراتهم.
والتاريخ ليس فكرة مجرَّدة، بل قوة طبعت بصمتها في لحمنا ودمنا. حين اجتاح الطاعون أوروبا، لم يغيِّر ملامحها السياسية وحدها، بل غربل شعوبها، فبقيت جيناتٌ أكثر مقاومة للأوبئة. وحين اندفعت القبائل من قلب الصحراء إلى تخوم العالم، امتزجت الدماء بالدماء، وصار النسب يروي حكايات غزو وتجارة وزواج ومصاهرة. لقد تحقق قول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، فالتعارف لم يكن سلاماً فقط، بل كان امتزاجاً وتلاقحاً، أودع آثاره في خريطة الجينات قبل أن تودع في خرائط المؤرخين.
لكن الصورة معكوسة أيضاً: فالـ DNA لم يكن صفحةً بيضاء تنتظر أن يخطّ عليها التاريخ ما يشاء، بل كان قلماً يكتب مسار التاريخ ذاته.
• جينات القوة والمناعة ساعدت شعوباً على البقاء في وجه الفناء.
• جينات الذكاء والذاكرة خلقت علماء وفلاسفة غيَّروا مسار الحضارات.
• وحتى العلل الوراثية، كالهيموفيليا التي عصفت بسلالةٍ ملكية في أوروبا، أعادت تشكيل خرائط الحكم والتحالفات. هكذا كان الإنسان مسرحاً لمعادلة عجيبة: التاريخ يصوغ جيناته، وجيناته تعيد صياغة التاريخ.
لو كان البشر سلالةً واحدة متطابقة، لما عرف التاريخ حركة ولا حياة. لكن سُنة الله اقتضت أن يُدفَع الناس بعضهم ببعض، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾. ذلك الدفع لم يكن بميادين الحرب وحدها، بل في ميادين العلم والفكر والتنافس على الرزق والبقاء. وكل دفعة كانت تترك أثراً، إماً في سطور التاريخ، وإما في شيفرة الـ DNA التي تحفظ سرّ الإنسان منذ أول لحظة خُلق فيها.
حين نقف في مختبرات البصمة الوراثية، ندرك أن بين أيدينا مؤرخاً صامتاً لا يعرف التزييف، ولا يخضع لسلطان السياسة. هو الذي يُخبرنا عن المفقودين في الحروب، ويُعيد الأطفال المخطوفين إلى أهاليهم، ويبرِّئ مَنْ لوَّث التاريخ سيرتهم ظلماً، ويدين مَنْ أفلت من صفحات المؤرخين. كأن الله شاء أن يمنح للإنسان كتابين: كتاباً يكتبه البشر بأيديهم، هو التاريخ، وكتاباً يكتبه الله في جيناتهم، هو الـ DNA. فإذا ضاع الأول أو زُوِّر، فإن الثاني باقٍ شاهداً إلى يوم يبعثون.
دمتم بود