لا أنسى آخر لقاء جمعني بالدكتور أحمد الخطيب في الديوان. يومها كُنَّا نتحدَّث عن أحداث روسيا وأوكرانيا، وكيف يتغيَّر النظام العالمي، وكُنت مُصغياً إليه، كما اعتدت دائماً. وفي ذلك اليوم، على غير عادته، تأخر في العودة إلى منزله... وكأنها كانت إشارة خفية أن ذلك اللقاء سيكون الأخير.
رحمك الله وغفر لك يا مَنْ كُنت لنا أكثر من أب، المؤمن بالحِراك الشبابي، والداعم الأول لنا، والمستمع المُصغي المتواضع الذي لم يعرف الكِبر يوماً. ومنذ يوم رحيلك، يا دكتور أحمد، وأنا عاجز عن كتابة حرف عنك. كيف أكتب عنك وأنت حاضر في كل لحظة من حياتي؟ كيف أختصر عُمرك النقي، ومواقفك الصَّلبة، وحِكمتك التي كُنت تضعها بين يدي كمن يضع كنزاً في يد صاحبه؟ كنت بالنسبة لي أكثر من معلم... كنت الملهم الفذ، وكنت أباً حقيقياً. كنت السند الذي ألوذ به في الشدائد، والمرشد الذي أستشيره في المواقف الصعبة، والصوت العاقل وسط ضجيج السياسة، والصوت الجريء وسط صمت الخوف. علَّمتني أن الحُرية لا تُهدى، وأن الكرامة لا تُباع، وأن الوطن لا يُختصر في أرضٍ وحدود، بل في كرامة أهله وعدالة حكمه.
منذ شبابه، حمل الحكيم أحمد الخطيب هموم الوطن العربي على كتفيه، مؤمناً بأن الديموقراطية ليست ترفاً، بل حقٌّ أصيل للشعوب. كان صوته ثابتاً في وجه الاستبداد، لا يساوم ولا يلين، حتى في أحلك الظروف السياسية.
وكان يختار دائماً صف المصلحة العامة على أي مصلحة شخصية. لم يكن الخطيب سياسياً يبحث عن مجدٍ شخصي أو منصب، بل كان مدرسة سياسية في الحِكمة والمواجهة، يعرف متى يرفع الصوت، ومتى يصمت ليترك للصمت وقعاً أقوى من الكلام. كان قنبلة حق تنفجر في وجه الباطل كلما حاول أن يمد أذرعه على الكويت، وفي الوقت نفسه كان مرشداً يلهم الأجيال بأسلوبٍ هادئ ورؤية بعيدة المدى.
قد يتساءل البعض: لماذا لا نشعر أن الحكيم أحمد الخطيب قد غاب؟ الجواب بسيط ومعقد في آن واحد: لأنه لم يترك فراغاً في ذاكرتنا، بل ترك إرثاً حيَّاً. كتبه، وأحاديثه، ومواقفه، وحتى صمته في بعض اللحظات، كل ذلك ما زال يتردَّد في أذهان مَنْ عرفوه أو قرأوا عنه. هو حاضر في نقاشاتنا عن الحُريات، في دفاعنا عن الدستور، في مطالبتنا بمحاسبة الفساد. كلما ارتفعت كلمة حق، كان اسمه يلمع في الخلفية.
كنت يا دكتور تؤمن بأن الشباب هم الأمل، وأنهم الكتف الذي سيحمل الراية إذا سقطت من يد الجيل المؤسس. كنت تقول دائماً: «لا تتركوا المعركة حتى لو تغيَّرت الوجوه، فالمبدأ لا يتغيَّر». واليوم، بعد رحيلك، وصيتك هذه ليست مجرَّد كلمات، بل هي عهد علينا أن نُكمل الطريق. رحيلك ليس دعوة للبكاء، بل نداء للاستيقاظ. إذا كنا حقاً نؤمن بأنك حيٌّ فينا، فعلينا أن نحمل رايتك ونمشي في نفس الطريق، حتى لو كان مليئاً بالعواصف. الكرامة لا تُستجدى، والحُرية لا تُمنح، والفساد لا يسقط بالرجاء، بل بالمواجهة.
الخاتمة:
لقد تركت لنا وصية غير مكتوبة: أن نُكمل الطريق. ونحن - مَنْ أحببناك وعرفناك - لن نخون تلك الوصية. سنظل نحمل الراية، كما علَّمتنا، ونقف حيث كنت تقف، ونقول ما كنت تقول.
سلام عليك يا حكيم الأمة، سلام على مَنْ جعل السياسة شرفاً، والنضال حياة، والحُرية قدراً. رحلت بالجسد، لكنك ستظل الحاضر الذي لا يموت.