صدرت خلال الشهر الجاري مجموعة إشارات لافتة تنبئ بوجود ملامح تستهدف إعادة صياغة تحالفات الاقتصاد العالمي المستقرة منذ بداية تفكك الاتحاد السوفياتي وجمهورياته الاشتراكية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن أعادت العديد من الدول والكيانات الاقتصادية الضخمة قراءتها لمشاهد حركة التجارة العالمية واحتمالات تآكل هيمنة الولايات المتحدة الأميركية كقوة اقتصادية وربما سياسية أولى في العالم لعقود طويلة، في ظل تنامي تداعيات السياسات الترامبية الحمائية، وأبرزها الرسوم الجمركية التي أطلقها بداية شهر أبريل الماضي، إلى جانب مخاطر تنامي الديون الأميركية وتبعاتها على الأسواق الدولية، فضلاً عن تعدي ترامب المباشر على مصالح وسيادة العديد من الدول، دون اعتبار إن كانت جارة أو حتى حليفة.
فيل وتنّين
ومن خلال لمحة على بعض هذه التحولات، نجد أنه مع بداية شهر أغسطس الجاري شهدت العلاقات الهندية - الصينية تقارباً لافتاً، تمثّل في إعادة خطوط الطيران بين البلدين، بعد توقّفها نحو 5 سنوات، إثر مواجهات على الحدود بينهما، فضلاً عن تخفيف ضوابط التجارة، لا سيما صادرات اليوريا والأسمدة، إضافة إلى تعزيز الشراكة بينهما في مجال إنتاج السيارات الكهربائية، في وقت تصاعدت خلافات الهند مع الولايات المتحدة، بعدما فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب رسوماً جمركية بنسبة 50 بالمئة على الهند، الدولة الأسرع نمواً بين أكبر 10 اقتصادات عالمية في الربع الأول من العام الحالي، كما تجري ترتيبات لعقد قمّة تجمع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بالرئيس الصيني شي جينبينغ نهاية الشهر الجاري، وهي القمّة التي باتت توصف عالمياً بـ «رقصة الفيل والتنين» - كاستراتيجية تجمع ثاني ورابع أكبر اقتصادين في العالم لمواجهة ضغوط ترامب التجارية أو «الكابوي الجديد».
أوروبا بدعم ألمانيا
وكان لافتاً الدعوة التي أطلقتها الشخصية الاقتصادية المرموقة عالمياً، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، الرئيسة السابقة لصندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، بضرورة أن تبحث التجارة الأوروبية عن متنفس جديد بعيداً عن واشنطن، بعد أن أدت رسوم ترامب الجمركية الى تراجُع صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة بـ 10 بالمئة في النصف الأول من العام الحالي، فضلاً عن تقلّص الفائض التجاري للاتحاد إلى 1.8 مليار يورو، بعدما كان يبلغ 12.7 ملياراً، حيث ترى لاغارد أنه في ظل بيئة مضطربة تتسم بارتفاع الرسوم الجمركية وتزايد المنافسة الدولية، فإن المتغيرات تدفع الاتحاد الأوروبي إلى البحث عن بدائل قادرة على حماية مصالحه وتعزيز مكانة اقتصاده الموجّه نحو التصدير، وهو ما وافقها عليه المستشار الألماني فريدريش ميرتس بأنه ينبغي لألمانيا (ثالث أكبر اقتصاد في العالم) أن تتطلع إلى ما هو أبعد من الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي يفرض رسوماً جمركية بنسبة 15 بالمئة على سلع أوروبا، من خلال إيجاد شركاء تجاريين جدد في السنوات المقبلة، متسائلاً: «كيف نتعامل مع التجارة العالمية إذا كان الأميركيون لم يعودوا مستعدين للعمل وفق قواعد منظمة التجارة العالمية»؟!
البرازيل ذات السيادة
أما البرازيل، الدولة اللاتينية الوحيدة ضمن أكبر 10 اقتصادات في العالم - تحتل الترتيب العاشر - فهي في مواجهة سياسية/ اقتصادية مكشوفة مع الولايات المتحدة الأميركية وضد سياسات ترامب الحمائية، سواء على صعيد التجارة أو حتى الهجرة، فقد اعتمد رئيسها لولا دا سيلفا خطة أحالها إلى البرلمان تحت عنوان «البرازيل ذات السيادة»، لمواجهة الرسوم الجمركية، تتضمن توفير خط ائتماني بقيمة 5.5 مليارات دولار، إلى جانب خطوات لمساعدة المصدّرين المحليين تتضمن حوافز تأمينية وإعفاءات ضريبية وشراء المنتجات المحلية، بالتوازي مع فتح آفاق أوسع لتحالفات اقتصادية وتجارية مع مجموعة «بريكس» التي أسستها روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا، فضلاً عن البرازيل لتعويض الفاقد من الصادرات بسبب رسوم ترامب الجمركية.
صياغة ومصالح
والأمثلة على وجود ما يشير الى وجود ملامح تستهدف إعادة صياغة تحالفات الاقتصاد العالمي وحركته التجارية عديدة، سواء في إفريقيا أو وسط آسيا وجنوب غربها، مع تأكيد أن الولايات المتحدة لا تزال هي أكبر اقتصاد في العالم، إلّا أن فرضيات حدوث التحول في موازين القوى الاقتصادية العالمية تطرح بجدية في رهانات تفوّق اقتصاد الصين على نظيره الأميركي قبل منتصف القرن الحالي، وما يمكن أن يواكب هذه السنوات من تغيّرات تمس حركة تدفق الاستثمارات والتحالفات التجارية والكيانات الاقتصادية بشكل يؤثر جوهريا على مصالح الدول وعلاقاتها وحتى أمنها.
الكويت والتحولات
ما يهمنا في الكويت ضمن سياق فرضية تحولات قوى الاقتصاد العالمي وإمكانية تغيّر الموازين العالمية في التجارة والاستثمار، وبالتالي مصالح الدول، أن تكون عملية الدفاع عن المصالح الاقتصادية مرتبطة بمجموعة من السياسات والإجراءات التي تتعامل بحصافة مع التحولات العالمية وآثارها، وهي مسائل تبدأ بتعزيز الأبحاث والدراسات المختصة بقراءة واقع الاقتصاد العالمي وتحولاته، وصولاً إلى بناء شبكة مصالح متنوعة مع مختلف القوى المتنافسة على زعامة المشهد الاقتصادي العالمي.
ولعل ما يطرح من فرضيات مرتبطة بتحولات قوى الاقتصاد العالمي، يشير الى أن دول وأقاليم نامية سوف تستفيد من تدفقات الاستثمارات الدولية والتجارة العالمية، أبرزها في آسيا فيتنام وماليزيا وتايلند ودول مجلس التعاون الخليجي، ولعل جميع ما سبق ذكره من كيانات لديها استعداد ومرونة للاستفادة من أي تحوّل، عدا الكويت التي لا تزال تعتقد - كما كانت منذ عقود - أن توطيد العلاقة مع الغرب منحصر بتحويل جزء من إيرادات البترول إلى صفقات عسكرية، وأن بناء الشراكة مع الشرق يقتصر على إرساء مناقصات ومقاولات لشركات صينية، بينما ما تحتاجه الكويت لا يقل عن تفعيل المشاريع «النائمة» منذ نحو 20 عاماً، وأبرزها إقامة منطقة مصالح دولية بها، حيث تكون جزءاً من طريق تجارة عالمي أو إقليمي تحتوي على خدمات ومناطق لوجستية وتكنولوجية تدار بعقلية تحقق الاستدامة للبلاد اقتصادياً وسياسياً وأمنياً.
العلة أعمق من الاقتراحات
والحديث عمّا يمكن اقتراحه أو فعله كخيارات اقتصادية استراتيجية للكويت قد لا يتوقف، لكن العلّة أعمق من تقديم الاقتراحات مع إدارة عامة تعبّر عنها السياسات الحكومية منشغلة بكل ما هو غير أساسي أو هامشي ولا يرتبط بالاستدامة، ولا أدل من قراءة بيان مجلس الوزراء في اجتماعه الأخير لمعرفة أن اهتمامات الإدارة العامة باتت منحصرة بمتابعة جناح الكويت في معرض إكسبو أوساكا 2025، أو تحديد يوم رياضي أو إطلاق تطبيق شكاوى بلدية الكويت، وهي اهتمامات لا ترقى إلى حجم ومسؤولية وصلاحيات الإدارة العامة، وليست مرتبطة باجتماع واحد، فحصة قضايا التنمية والاقتصاد تبدو ضيئلة ضمن جداول أعمال الاجتماعات الحكومية.
والسؤال اليوم، في وقت لم تتعامل يوماً بحصافة مع صراحة تركّز اعتماد المالية العامة المفرط على أسعار النفط أو اختلال سوق العمل أو محدودية الناتج المحلي، كيف ستتعامل مع تحديات مبنية على فرضيات مهما كانت جادة أو بوادرها ظاهرة؟!