في نيويورك جلست في الصف الأخير بورشة عن أساسيات الكتابة، كانت تضم جميع الأعمار، وحين طلبت الأستاذة أن نكتب شيئاً من سطرين، لاحظت شرودي ومعاناتي مع القلم الذي كلّما أمسكت به كان يقع من يدي، اقتربت منّي ونظرت في عيني، وقالت: اكتبي، كتبت سطرين، ثم طلبت منّي أن أقرأهما أمام الجميع، رفضت أن أترك مكاني الأخير، وأصررت على أن أقرأ من حيث أجلس، فوافقت، لم أكد أنتهي حتى صفّق الحاضرون، نظرت لهم بدهشة، ثم إليها، فإذا بها تحدّق بي، وتقول «أنتِ كاتبة محترفة، لماذا أتيتِ إلى هنا»؟
أجبتها أن القلم أصبح عصياً عليّ، وأن الأفكار تدور في رأسي حتى يكاد ينفجر ولا أستطيع إخراجها، وأنا التي كتبت مئات الأخبار والتقارير واللقاءات، بتُّ اليوم أجد نفسي غريبة أمام الورقة البيضاء، ابتسمت، وقالت: «هذه هي Writers’ Block، لم أجد ترجمة عربية سوى (حبسة الكاتب)، لحظة طبيعية يمرّ بها كل مَن يكتب، فلا تخافي منها».
بعد الورشة نصحتني نصيحة غيّرت نظرتي للحياة «عليك أن تلتقي بأناس مختلفين عنك فكرياً، أن تتقبلي الجميع بلا أحكام، وأن تصغي إلى صوت روحك أينما يقودك».
كانت كلماتها بسيطة، لكنها اخترقتني بعمق. أدركت أن تقبّل هذه المرحلة جزء طبيعي من مسيرة أي كاتب، وأنه حتى كبار الكتّاب مرّوا بها، تعلّمت أن عليّ أن أرى الحياة من زوايا لم أرَها من قبل، وأن أتحرر من القوالب والأفكار الجاهزة حين تصطدم بروحي.
ومنذ ذلك اليوم بدأت أجرّب، فوجدت نفسي في الأعمال التطوعية، محلية ودولية، حيث كان العطاء متنفساً يعيد لي التوازن وانطلقت نحو الرياضة بشتّى أنواعها، كنافذة تنقيني من الصمت الداخلي، واكتشفت أن التجارب الجديدة التي كنّا نخاف منها، هي في الحقيقة البوابة إلى ذاتٍ أكثر صدقاً، وأن الكلمة الصادقة التي تخرج من القلب مهما كانت مبعثرة ستصل إلى القلوب.
أما مَن يريد أن يعرف كيف تجاوزت تلك المرحلة، فلقد قررت أن أكمل في تحدي مخاوفي، حتى وصلت الى تجربة القفز بالباراشوت، وأنا التي أخاف من النظر إلى الشباك في مكان مرتفع، ووثقت هذا لأختي، وما إن عدت للمنزل حتى وجدت أمي غاضبة جداً منّي، واستقبلتني كما تستقبل أيّ أم شرقية ابنتها وهي في حالة غضب، حيث ما إن فتحت باب المنزل حتى وجدت «الشبشب الطائر» في استقبالي، والذي بحق لم يخطئ يوماً في التصويب وأنا أردد «يمّا ما سويت شي.. هذا كلام الأستاذة اللي بأميركا»، وبالطبع ردها كان «مالنا شغل بالأميركان مو من مواخذينا»، ومن ساعتها... وأنا تخلصت من «حبسة الكاتب».
حين جلست بعد تلك التجربة لأمسك القلم، شعرت بشيء مختلف، اكتشفت أن حبسة الكاتب لم تكن سوى دعوة غير مباشرة للحياة، لأن نعيش أكثر، أن نتنفس أعمق، أن نقترب من التجارب التي نخشاها، ونفتح أبواباً لم نتجرأ على أن نطرقها من قبل.
وأدركت أن الكلمات لا تُولد من عزلة باردة، بل من حياة مليئة بالمفارقات، من دمعة صادقة، من ضحكة، من خوف تحوّل إلى مغامرة، وربما من «شبشب» طائر..
أن تعيش بصدق هو الطريق الوحيد لتكتب بصدق، وحين نسمح لتجارب الحياة أن نعيشها دون أن نتعدى حدود الآخرين.