قدم الخبير الدستوري وأستاذ القانون العام في كلية الحقوق بجامعة الكويت، د. محمد الفيلي، ندوة بعنوان «المفاهيم واللغة... تأملات في الترجمات»، أمس الأول، بحضور رئيس جمعية الخريجين إبراهيم المليفي ونخبة من المثقفين، ضمن فعاليات «معرض الكتاب الصيفي» بدورته الثامنة، الذي تقيمه الجمعية، وأدار الندوة عضو مجلس إدارة جمعية الخريجين غنام الغنام.

وخلال الندوة، تحدث الفيلي عن اللغة كوعاء يتضمن المفاهيم ووسيط بين المرسل والمستقبل، موضحاً أن «اختيار العبارات الدالة على المفاهيم يتصل منطقياً بتصورنا الذاتي لمضمونها، وقد يكون ذلك على حساب حقيقة مضمونها الأصلي، وأن هناك صعوبة في إعادة صياغة العبارات بعد استقرارها، لكن التأمل في حقيقتها يساعد على إعادة ضبط تعاملنا معها، ربطاً بحقيقة معناها».

وأوضح أن المفاهيم كما الأشياء تنتقل بين الجماعات الإنسانية، وقد تنتقل بنفس نطقها، وتنضم للغة القوم الذين استقبلوها، كما يمكن أن تترجم إلى اللغة الجديدة، استناداً إلى فهم الجماعة التي استقبلتها، مشيراً إلى أن الترجمة، وإن كانت في ظاهرها عبارات جديدة يتم اختيارها أو نحتها، لكنها تعكس تصور المترجم للمفهوم، وضرب مثالاً بعدد من المفاهيم المهمة والشهيرة التي تأثرت بالترجمة، ومنها: الدستور، والدولة، والاشتراكية، والمرافق العامة.
Ad


وحول الدستور، ذكر أنه بالمعنى الاصطلاحي هو القانون أو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم ظاهرة السلطة في الجماعة السياسية، وهي اليوم الدولة، لافتاً إلى أن أول ظهور رسمي للمفهوم باللغة العربية كان في تونس عام 1861 تحت عنوان قانون الدولة التونسية.

وأضاف: «ظهرت وثيقة قانونية في الدولة العثمانية عام 1876 تتضمن تنظيماً لأمور الحكم، وعلاقة الدولة العثمانية برعاياها، تُرجمت وفق لغات الأقاليم التابعة لها، وترجمتها للغة العربية هي قانون أساسي، وهي ترجمة تعكس المفهوم في معناه الاصطلاحي بشكلٍ سليم، وقد استخدم هذا التعبير أو ما يقاربه (نظام أساسي، لائحة أساسية) في الأقاليم العربية بعد استقلالها، ففي مصر صدرت وثيقة صدَّق عليها الحاكم عام 1882 باسم اللائحة الأساسية، وفي العراق كان مسمى الدستور عام 1925 القانون الأساسي، وذات الاسم تم اختياره في شرق الأردن سنة 1928».

وأضاف أن التعبير تم استخدامه كعنوان لمشروع الدستور الذي قدمه مجلس الأمة التشريعي للحاكم في الكويت عام 1939، وأيضاً استخدمه الأمير أحمد الجابر كعنوان للدستور الذي أعده آنذاك، أما الدستور المؤقت في الكويت 1962 فكان عنوانه النظام الأساسي للحكم في فترة الانتقال، والدستور العماني اليوم عنوانه رسمياً النظام الأساسي للدولة، وكان أول ظهور لمصطلح دستور خارج إطار دولة الخلافة العثمانية، على حد علمي، في مصر عام 1923، ثم انتشر في البلاد العربية.

كيان سياسي

وعن الدولة، قال الفيلي إنها تعبِّر عن كيان سياسي يمارس السيادة على إقليم محدَّد، ويُدير أمور الشعب الذي فيه، وفق تنظيم مؤسسي. والتعبير ظهر بأوروبا في حدود القرن السادس عشر، للتعامل مع مركزية سُلطة الملك، التي ظهرت على أنقاض فترة النظام الإقطاعي، وللتعبير عن ظهور التنظيم السياسي المؤسسي، بعد أن كان الكيان السياسي يُنسب لشخص الحاكم أو لسلالته.

ولفت إلى أن الجذور اللغوية للمصطلح أساسها لاتيني من كلمة status، وهي في الأصل تعني الثبات، وتطور معناها لوصف الوضع أو الحالة، ولا تزال etat بالفرنسية تُستخدم بهذا المعنى لوصف الأحوال الشخصية للإنسان .

وأشار إلى أن أصل الكلمة في العربية من التحوُّل، وفي سورة آل عمران وصف لوضع المسلمين بعد هزيمتهم في أُحد (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، ويقول أبوالبقاء الرندي الأندلسي:

هي الأمور كما شاهدتها دول

مَن سرّه زمن ساءته أزمان

وتُوصف الفترة التي يسود فيها حاكم أو أسرة حاكمة بعبارة دولة، مثل دولة بني أمية، أو بني العباس. وتابع: «عندما انتشر المفهوم السياسي الحديث بمعنى إقليم محدَّد به شعب يُدير نظام سياسي أحواله، ويمارس السيادة في إطاره، تم استخدام عبارة (الدولة)، لوصف هذا المفهوم الجديد، ربطاً بدلالات المصطلح القديم، بدلاً من اختيار عبارة أخرى، أو اختيار المفردة الأجنبية لتعريبها، كما في عبارة (دستور) التي غدت معرَّبة».

وفيما يتعلَّق بمصطلح الاشتراكية، ذكر الفيلي أنه ظهر بعد نهاية العصر الإقطاعي في أوروبا، وهو مفهوم فردي يُعلي قيمة الفرد بذاته، لأن نجاحه يعني تقدُّم الجماعة التي هو منها، حيث أفرزت النظرية الفردية مفهوماً خاصاً بالحقوق والحُريات الفردية، ومفهوماً للمساواة أمام القانون على أنقاض الامتيازات المقررة للنبلاء، وأيضاً الفلسفة الرأسمالية في المجال الاقتصادي، لكن الواقع العملي كشف أوجه قصور في التوجه الفردي، وهذا قاد إلى ظهور فلسفة جديدة تنطلق من إعادة توجيه البوصلة للنظام السياسي ناحية هدفٍ جديد، وهو مصلحة الجماعة أو المجتمع، حتى لو أدى ذلك إلى تقييد المصلحة الفردية.

ولفت إلى أنه تم استخدام عبارة socialisme في اللغات الأوروبية لوصف التوجه الاجتماعي في الاقتصاد، وهو مشتق من عبارة مجتمع. أما باللغة العربية، فتم اختيار عبارة الاشتراكية، وهي أثر احتمالي من آثار التوجه الاجتماعي، ويعني تملك الدولة لقدرٍ من وسائل الإنتاج إلى جوار الأفراد. وهي بهذا الإجراء تهدف إلى وضع قدرٍ من القيود على الملكية الفردية.

وأكد أن مثال الاشتراكية كشف كيف أن الترجمة اختزلت المفهوم في أثر من آثاره، ولعل هذا الفعل ناتج عن الانبهار بالأثر على حساب نقل الصورة كاملة للمفهوم، فغطَّت الشجرة الغابة، وغاب المشهد الأصلي عن نظر الجمهور.

وحول مفهوم المرافق العامة (service public)، قال الفيلي إنه ظهر في أوروبا للتعامل مع دور الحكومة في إشباع حاجات الأفراد العامة، فهي تقرر الحاجات التي يتم إسباغ وصف عامة عليها وفق طبيعة المجتمع، وسبل إشباعها، من خلال الأجهزة الإدارية التي تنشئها الحكومة لخدمة الجمهور، وقد نقل هذا المفهوم إلى اللغة العربية باستخدام تعبير المرافق العامة، ما يعكس معنى مادياً بالدرجة الأولى، فهو مرتبط بالمكان والمباني، فيما التعبير الأوروبي ينطلق من معنى الخدمة التي يتم تقديمها لإشباع الحاجات العامة. والتنظيم المادي لوسائل إشباع الحاجات العامة من خلال الإدارات التي تنشئها الحكومة، أو تشرف على تسييرها، يكون نتيجة لفكرة وجوب تقديم خدمة إشباع الحاجات العامة.