في سجل الكويت الحديث، هناك وجوه لا يمحوها الغياب، وأسماء لا يطويها النسيان. من بينها يسطع اسم فايق عبدالجليل، الشاعر الذي تحوّل إلى أيقونة مقاومة، ورمز للكلمة حين تصير قدراً، وحين تتحوّل إلى سلاح يُخيف الطغاة أكثر مما تخيفهم المدافع.
وُلد فايق عام 1948، في زمنٍ كان الوطن يخرج من عباءة اللؤلؤ والغوص إلى زمن الدولة الحديثة. كانت الكويت آنذاك كقصيدة جديدة تُكتب على مهل، وفايق كان واحداً من أبنائها الذين حملوا الكلمة بجدية الأطفال حين يكتشفون ألعابهم الأولى.
نشأ على أصوات البحر وصوت الأرض، وكبر وهو يرى في الشعر وطناً مصغراً، وفي القصيدة بيتاً يأوي إليه. كتب عن الحب والإنسان، عن تفاصيل الحياة الصغيرة، لكنه كان يعرف أن الشعر الحقيقي يُختبر حين تصطدم الكلمة بالحدث، وحين تجرؤ على مواجهة القيد.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، برز فايق بين جيله كصوت مختلف، يمزج العاطفة بالالتزام، والذات بالوطن. كان صوته قريباً من الناس، يكتب بلغتهم ويعبّر عنهم. لم يكن شاعر برج عاجي، بل شاعر الشارع والمقهى والسوق، شاعر البسطاء الذين رأوا فيه مرآة لهم.
لم يؤمن بالحياد في الشعر ولا في الحياة. بالنسبة له، الحياد نوع آخر من الخيانة، ولذلك انحاز دوماً للحرية والإنسان، ووقف مع فلسطين والعرب، كما وقف مع وطنه الكويت.
حين جاء الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990، تغيّر كل شيء. صُدمت البلاد، أُطفئت الأنوار، وتحوّلت الكويت إلى جرح مفتوح. لكن فايق لم يهرب، ولم يختبئ. بقي في قلب وطنه، يكتب، ينشر، ويُخفي القصائد بين الأيادي لتصبح منشورات سرية.
كان يعرف أن الاحتلال يخاف الكلمة أكثر مما يخاف الرصاص، وأن قصيدة يمكن أن تُلهم مئات المقاومين.
تحولت كلماته إلى شعارات على الجدران، وأغنيات في الملاجئ، ورسائل في قلوب الناس. كتب وهو يعرف أن قصيدته قد تكون السبب في اعتقاله، لكنه آمن أن الصمت أخطر من الموت.
في يناير 1991، قبل أسابيع من التحرير، داهم الجنود بيته. اعتقلوه لأنه كان «أخطر» مما يحتملون: شاعر لم يكن يحمل سلاحاً، لم يكن يملك سوى ورقة وقلم، لكن هذا وحده كان كافياً لتجريمه.
أُخذ إلى المجهول، ليصبح صدى غيابه جزءاً من ذاكرة كل كويتي. ظلّت أسرته وأصدقاؤه يبحثون عنه لسنوات، حتى جاء عام 2003، بعد سقوط نظام صدام حسين، لتُكتشف جثته في مقبرة جماعية بالعراق. عاد جثمانه إلى الكويت، لا شاعراً حياً، بل شهيداً للكلمة.
اليوم، حين نقرأ قصائد فايق عبدالجليل نشعر أن كل بيت شعر هو وصية أخيرة، وكل كلمة هي نبضة من قلبه الذي قاوم حتى اللحظة الأخيرة. لم يكن شاعراً يبحث عن مجد أدبي، بل كان إنساناً يرى في الشعر وسيلة لتكريس الحرية.
ترك لنا فايق خريطة من الكلمات، فيها إصرار على أن الوطن لا يموت ما دامت فيه أصوات تقول «لا».
كان شعره، ولا يزال، مدرسة في الصمود، تُعلّم الأجيال أن الحرية تبدأ من قصيدة، وأن الدم قد يجف، لكن الكلمة لا تجف.
سلامٌ عليك يا فايق... يا من كتبت بالدم ما لم تستطع المدافع كتابته.
سلامٌ على ذكراك التي لا تغيب، وعلى وطنٍ كلما قرأك تذكّر أن الكلمة جبهة، وأن القصيدة قد تتحول إلى سلاح، وأن الحب نفسه يمكن أن يكون طريقاً للشهادة. كنتَ شاعراً... وصرت وطناً، وكنتَ إنساناً... وصرت ذاكرةً حيّة لا تنطفئ.