وقفت الكلمة عند حافة الحرف تبحث عن ذاك الأنسب ونبشت كثيراً منها، أي من الأحرف، رمت بعضها هنا وركنت أخرى هناك، بل جربتها حتى انتقت تلك التي قد تأتي بالمعنى دون قطرة وجع أو جرح في النفس. الكلمة، إما أن تفتح أبواباً على محبة أو تبني جدراناً من الأسمنت تتحول إلى أشكال من الكراهية المدفونة أحياناً والقابلة للتحول إلى سلاح من رصاص ودم.
هنا حيث تختلط الحكايات بالنيل وتتعانق الأزمنة في أزقة القاهرة والإسكندرية والمنيل والأقصر وأسوان، هناك ولدت الأمثال الشعبية كأبسط شكل من أشكال الحكمة الجماعية. كلمة تحمل تاريخاً من التجارب وأمثالاً طرزت بنتاج حضارات وثقافات وأديان فشكلت جزءاً من الذاكرة والثقافة الجمعية التي استطاعت أن تعبر الحدود لتصل إلى كل ناطق باللغة ولكل عارف بأن للحروف في تسلسلها معاني وعظات وعبراً.
وقد احتفى هذا التراث الشعبي بمنطق العقل والرفق في القول واللفظ مثل «المحبة تنزل من السما» أو «الي يسلم ما يتعركش» أو «الكلمة الطيبة جواز سفر» و«الي يقول الحق عمره ما يخاف» وغيرها من الأمثلة، وهي تلخص قوة الحرف عندما يخزن ويخرج في شكل كلمة متراصة.
قوة الكلمة ليست في شدتها، بل في صدقها وحنانها. هي القوة التي تجعل المختلفين يتحاورون بدلاً من أن يتناحروا، وتجعل الناقد يحترم المختلف معه حتى وهو يرفض فكرته. فإذا كانت الأفعال تبني عالماً مادياً، فإن الكلمات تبني عالماً معنوياً لا يقل أهمية: عالم الثقة، والاحترام، والكرامة. فمثل «الملافظ سعد» على شدة بساطته وربما عفويته يبدو كأنه دعوة مفتوحة لأن نزن كلماتنا قبل نطقها، وأن نتذكر أن للكلمة أجنحة تطير ربما لتلبد في ركن قلب فتشعل نوراً ساطعاً، أو تنزل كسهمٍ لتترك جرحاً غائراً في النفس ويبقى لنا وعلينا أن نختار! حتى عندما نختلف لا ننزل قطرة دم واحدة. ألم يقل عمر بن الخطاب: «السلام عليكم يا أهل الضوء»، وشكّلت كلماته مفصلاً كسر الجفاف، ونثر الدفء، وفتح أبواباً واسعة.
حتى الأديان التي سكنت أرض مصر لم تكن الكلمة بالنسبة لها وفي كتبها، مجرد وسيلة للتعبير، بل كانت جوهراً للوجود في القرآن الكريم «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ»، وفي إنجيل يوحنا «في البدء كان الكلمة»، فهنا الكلمة ليست فعلاً بشرياً، بل هي مبدأ كوني، أصل الأشياء وشرط وجودها.
في التراث العربي، الكلمة كانت شعراً قبل أن تكون سيفاً. المعلقات لم تكن حجارة أو دماء، لكنها أبيات صاغها شعراء القبائل ليُخلّدوا وجودهم. كانوا يقولون: «الكلمة تُبقي حيث يفنى الجسد». ومنذ ذلك الزمن، ظل الشعر ديوان العرب، وصكوك الصلح بينهم. وأحياناً ساحة معاركهم إن لم يُحسنوا لفظها أو يتقنوا غزل الحرف بعناية.
والكلمة في زمن «الهاشتاغ» تحولت إلى أسلحة متطورة للكراهية كثيراً، وقليلاً جداً للمحبة والسلام. في زمنٍ لم يعُد العالم يعرف فيه حدوداً، خرجت علينا وسائل التواصل الاجتماعي كأنها وعد بالحرية، بوابة مفتوحة نحو فضاء واسع يربط القلوب قبل العقول، ويجمع الغريب بالقريب، ويُعيد صياغة علاقتنا بالكلمة والصورة. بدت كحلمٍ إنسانيٍّ جديد، كمدينة افتراضية لا تنام، تتجاور فيها الثقافات، وتلتقي فيها الأصوات، وتتشابك فيها الأيادي ولو من خلف الشاشات أو منصات التواصل.
لكن الحلم لم يطُل. إذ سرعان ما اكتشفنا أن هذه المدينة لا يسكنها الأصدقاء وحدهم، بل تحوّلت إلى غابة تسرح فيها جيوش من الظلال. وجوه بلا ملامح، وأسماء بلا أصحاب، وحسابات تنبض بالكراهية أكثر مما تنبض بالحياة. كأنها أشباح رقمية تُرسل في عتمة الليل لتهاجم من يجرؤ على رفع صوته، أو لتبني أسواراً وهمية بين أبناء المجتمع الواحد. وفجأة انفجرت الكلمات المفخخة بالقنابل الذكية وصار الفضاء الافتراضي مرآة مشوهة تعكس قبح ما يدس من سمّ في الحرف ومساحات، بل ساحات لمعارك غير مرئية.
لم نعد نعرف إن كان من يحدثنا هو ذاك الجار القديم في حيّنا حيث تسكن المحبة، أم آلة مبرمجة في قبو لمبنى حديث جداً! فتتدفق الكلمات كالسيول بعضها صادق وكثير منها كاذب يصاغ بدهاء أو ربما أحياناً بغباء شديد، لكنه يلبس قناع الحقيقة، فيتسلل لوعي بعضنا دون أن يشعروا، وهنا تتحول الكذبة إلى كلمة عابرة للحدود والطبقات والمجتمعات والطوائف، وتتحول إلى قنبلة دخان تملأ الأفق فتغطي القلوب قبل العيون.
إنه زمنٌ تتساوى فيه قوة الرصاصة مع قوة التغريدة، وزمنٌ تُبنى فيه الحروب بوسم «هاشتاغ»، وتُهدم فيه المجتمعات بخبر كاذب. وسائل التواصل لم تعد ساحة للحوار، بل معركة يومية صامتة، لا تُسمع فيها أصوات المدافع، لكن يُرى أثرها في البيوت الممزقة، في السمعة المهدورة، وفي الخوف الذي يسكن النفوس. فالكلمة التي كانت برداً وسلاماً قد تصبح باروداً مخزناً ينتظر مَن يشعله بعود ثقاب رخيص. وما التاريخ إلا شاهد على الكلمات حين تكون «الملافظ سعد» أو تكون هي نفسها مساحات للجسور أو الجدران أو حتى الكراهية.
* ينشر بالتزامن مع الشروق المصرية