في 20 أغسطس 2025 نشرت مجلة Forensic Magazine الأميركية خبراً لافتاً حمل بين سطوره انتصاراً جديداً للحقيقة على الوهم، وللأدلة الرقمية على الروايات الملفقة. بطل القصة رجل أميركي يُدعى راي وودن (Ray Wooden)، قضى نحو عام خلف قضبان سجن في بنسلفانيا، بعد أن وُجهت إليه تهمة إطلاق النار على منزل في فيلادلفيا في يناير 2024. كان الاتهام مبنياً على شبهة وانتقام، إذ لم تمضِ أيام على إبلاغه عن اقتحام منزله حتى تحوّل هو من مُبلِّغ إلى متهم. هكذا سارت العجلة القاسية للقانون، فسُجن الرجل، وتُرك وحيداً معزولاً، بينما الحقيقة كانت مخبوءة في مكانٍ لم يلتفت إليه أحد: هاتفه المحمول.
في ديسمبر 2024 جاء التحول الحاسم، حيث دخل على خط الدفاع فريق شاب من طلاب وخريجي معهد نيوجيرسي للتكنولوجيا (NJIT)، يعملون كمحللين في شركة eForensix، وهم: ميا لوري (Mia LoRé)، وكارمن تشيونغ (Carmen Cheung)، وجيليان كونغنيوي (Gillian Kongnyuy). لم يكونوا مجرد باحثين عن تدريبٍ أو إنجازٍ أكاديمي، بل تحولوا إلى مفاتيح حقيقية لكشف البراءة.
فتح هؤلاء الشباب ذاكرة الهاتف، لم يقرأوا فقط الرسائل النصية، بل تتبعوا كل صورة، وكل موقع جغرافي، وكل أثرٍ رقمي تركه وودن وراءه، استخدموا أدوات تحليل مثل Caltopo لرسم الخرائط الزمنية والمكانية، كانت النتيجة مذهلة: في لحظة وقوع الجريمة المزعومة، كان هاتف وودن يُسجل وجوده في وحدة تخزين بعيدة عن مسرح الجريمة، وأحد أصدقائه تلقى رسالة نصية منه في التوقيت نفسه تؤكد مكانه، بهذا التحليل العلمي الرصين، انكشفت الحقيقة: الرجل لم يكن في موقع إطلاق النار، بل كان في مكان آخر تماماً. هذه الخيوط الرقمية، التي تجاهلها الادعاء، تحولت إلى أدلة براءة صريحة. وفي يوليو 2025 أسقط مكتب النائب العام في فيلادلفيا كل التهم الموجهة إليه، وأُطلق سراحه، بينما فُتح تحقيق في خلفيات الاتهامات الزائفة.
هذه لم تكن المرة الأولى التي ينجح فيها فريق NJIT في إعادة كتابة الحقيقة، فقد ساهموا قبل عامين في إعادة بناء مسرح جريمة قديمة في كوينز – نيويورك (1994)، ما أسفر عن تبرئة رجلين قضيا سنوات من عمرهما ظلما. إن قصة راي وودن تفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات مُقلقة: كم من الأبرياء يقبعون خلف القضبان اليوم، بينما تحمل هواتفهم وأجهزتهم مفاتيح براءتهم؟ كم من بياناتٍ لم تُحلل، أو رسائل لم تُقرأ، أو مواقع لم تُفسَّر، يمكن أن تُغير مسار العدالة لو فُكت طلاسمها كما فعل فريق NJIT؟ بالمختصر: الأدلة الرقمية لم تعد مكملة للأدلة التقليدية، بل غدت شهود عصرنا الجديد. في صمتها براءة، وفي تفاصيلها عدالة، وفي دقتها مستقبلٌ يَعِد بأن الحقيقة لن تضيع مهما حاول الباطل أن يكسوها بضباب... دمتم بود.